الخميس، 11 يونيو 2009

لجام الحرية



وقفت كعادتي في الساعة الرابعة بالقرب من دفتر الحضور والأنصراف متأهبا للأنطلاق ، هذه المرة تعدت الساعة الرابعة ومازالت موجودا برغبتي في الشركة ، رغم اني لن أسهر لكني أنتظر رمضان لنخرج سويا ، رمضان دخل عند جودت لتسوية بعض عهد المشتريات وأبلاغه بنتيجة المهام التي سبق وكلفه بها ، مكتب المهندس جودت يعج بالجالسين من كبار المهندسين وبعض المقاولين الكبار اصدقاء المهندس جودت أيضا ، لقد دخل رمضان في توقيت سيء كما يفعل دائما ، لكنه تعجل أمره حتى يسارع بالأنصراف ولا يضطر للأنتظار طويلا ، المهندس جودت في حالة مزاجية سيئة ومضغوط بمناقشة مشاكل العمل بالمواقع، ففي مثل هذه الجلسات يكون جودت مستمسكا بنصل تركيزه اللامع يقطع به في كل أرجاء الحجرة كلمات وردود مستخدميه من المهندسين ، أنه يوم الحساب الأسبوعي الذي يراجع فيه صنوف أعمالهم وكشوف مصروفاتهم ، كان لجودت عقلية ناقدة لا تقنع بسهولة ولا تتقبل الأمور في أثوابها التي يزينها بها ألأخرين ، قريحته لها ملكة التفنيد والمضاهة والمقارنة والتذكر ، وعلى قدر ما تكون هذه الجلسات مرهقة لعقله وجسده ، بيد انها محببة لنفسه ، فجأة وجد رمضان واقفا امامه يمد اليه أوراق العهدة ليعتمدها ويريد ان يقطع عليه أجتماعه ليتحدث في مأمورياته التي اداها ومأمورية باكر ويطلب عهدة جديدة..........ألخ ، انفجر المهندس جودت في غضبة عارمة موبخا اياه بكلمات حادة قاسية ثم طرده من المكتب ، أحتج رمضان بصوت عال ووقف يجادله بينما استمر جودت في صب المزيد من حمم غضبه على أم رأسه ، كانت اصواتهم المختلطة مسموعة بوضوح خارج المكتب ، تدخل بعض الجالسين كل بكلمة لمجاملة رئيس مجلس الأدارة او لتسخينه على رمضان مثل المهندس محمد مصطفى مدير احد المواقع و اشتبك رمضان مع المحرضين عليه في تلاسن حامي فقام احد المقاولين ونصحه بالخروج ، خرج رمضان حسونة من مكتب المهندس جودت غاضبا مطلقا العنان لساقيه ومغادرا العمل وهو يصيح رافضا أسلوب تعامل المهندس جودت معه ، كان رمضان شخص متمرد بطبيعته زئبقي وتصعب السيطرة عليه و جودت هوايته وحرفته ترويض المارقين وتسويتهم على نار هادئة فهو على دراية تامة بطبيعة شخصية رمضان الثائرة ، ، لحق رشدي بزميله على باب المصعد و انطلقا الى مقهى البستان وسط البلد الذي يرتاده المثقفين ، خيم عليهما الصمت بعض الوقت وما ان وصلا حتى عقدا اجتماعا لمناقشة الأمر ، كانت هذه عادتهما دائما منذ ان توطدت علاقتهما في كل ما يعن من امور الشركة التي لها علاقة بهما بشكل مباشر او غير مباشر أن يجلسا سويا ليقتلاها بحثا من باب تمضية الوقت و تبادل الراي ، ولقد تعلم كلاهما من الأخر الكثير فرشدي رجل مرفه ثقافته تليفزيونية بالدرجة الأولى قراءته تنحصر في السياسة و التاريخ يحب الرياضة بينما رمضان لا يميل للتليفزيون كثيرا وغير معتاد عليه لأنه غير موجود بالبيت ، رشدي يشعر بأن رمضان هو قاطرته للخروج من شرنقة الأسرة والصعلكة وسبر غور عالم الحياة ، بينما وجد رمضان في زميله تواضعا ونقاء السريرة التي تجعله يثق فيه بحيث لا يجد حرجا في ان يتحدث معه في ادق تفاصيل حياته ، بدأ رشدي الحديث متعجبا من أسلوب المهندس جودت القاسي و المهين في معاملة رمضان ، كانت كلمات رشدي من دون قصد سياطا يدمي اذني رمضان و يعمق احساسه بالكراهية والحقد على هذا الرجل الجبار وتزيد من جراح نفسه المتقيحة وتهيج بداخله مشاعر الثورة على هذا الوضع ، لم ينطق رمضان ببنت شفة ، أنتفض واقفا وطلب مني ان الذهاب معه لسكنه لأنه يريد ان يطلعني على شيء ، رشدي يعلم أن زميله من أبناء المنوفية و أنه يقيم بالقاهرة على حدود الزمالك فكان يتوقع انه سوف يصطحبه الى الكيت كات أو أمبابة أو الوارق مثلا ، فوجىء بأن رمضان أوقف تاكسيا وطلب منه الذهاب لشارع شهاب بالمهندسين ظن انه ربما سوف يقضي امرا ما ثم يتوجه لمسكنه ، لكن رمضان طلب منه أن يصعد معه الى بناية فخمة جدا صعد رشدي وهو مذهول حين ادار رمضان مفتاحا في احد الشقق بالدور الرابع ودخل ومن خلفه رشدي الذي بدا مشدوها من هول ما رأى ، كانت شقة بدون تشطيب تماما خالية من أي أثاث ومن الكهرباء يحتل رمضان أحد غرفها ينام على عدد من الألواح الخشبية متراصة فوق بعض الطوب ، مغطاة بالجرائد ويعلق ملابسه في مسامير مثبتة في الطوب الأحمر بينما تضاء الحجرة عن طريق (كلوب) وفي بعض الأحيان يستخدم أضاءة الاعلانات التي تقتحم الحجرة بجرأة من النافذة فلا زجاج او شباك خشبي يمنعها اللهم الا جوال بلاستيك يسدها به ، أكداس من الكتب على الأرض كأنها ماكيت لعمائر متباينة الأرتفاعات ، ازدادت دهشتي التي عقدت لساني بينما بصري المضطرب جائل لتفاصيل المكان ، يخط بلغة الحيرة اسئلة صعبة ، أرنو الى رمضان والسؤال يتقافز على لساني مثل قرد فزع ، خر رمضان مقعيا على حصيرة بلاستيكية ملونة يغطي بها الأرضية الأسمنتية ، فيما جلست أنا على سريره الحجري ، وبدأ يحكي لي التفاصيل ، عندما تعرف على المهندس جودت كان يسكن مع بعض الأشخاص في شقة بامبابة وكان العدد كبير والشقة ضيقة ويساهم في ايجارها بمبلغ مرتفع ، يقف كل صباح طابور طويل امام الحمام ، اثر ذلك على انتظامه في العمل فكان لا ينام جيدا و يذهب متأخرا كل يوم ، طلب من المهندس جودت ان يمنحه بدل سكن ليساعده في الحصول على حجرة منفصلة ، تذكر جودت أن زوجته تمتلك شقة بدون تشطيب بالمهندسين وانه يمكن أن يتهرب من مسألة بدل السكن هذه بان يسمح لرمضان بألأقامة فيها ، وبالفعل حين أخبره بالأمر كاد رمضان ان يطير من الفرحة لكنه حين ذهب معه للشقة صعق من حالتها ومنظرها وادرك من كلام المهندس جودت أنه يريد فقط خفير لحراسة الشقة و تامينها بعد أن دخل صاحب العمارة في مشاكل مع بعض الملاك ، رفض جودت أن يجري أي تشطيبات بالشقة ، حتى الحمام رفض ان يشطبه ، بل أعتبر جودت انه بذلك اسدى معروفا كبيرا لرمضان بعد ان وفر له مأوى مجاني ، وحقيقة الأمر انه ليس مجانيا بالمرة وأنما دفع رمضان قيمته غاليا من مرتبه الذي لم يزيد من سنوات ، ومن كرامته التي تهان يوميا ، وكلما طلب زيادة لمرتبه يذكره جودت من طرف خفي بالشقة ، فيعود رمضان أدراجه خانعا مستسلما ، أثرت هذه الحادثة كثيرا في وجداني وغيرت من نظرتي لأمور عدة لأنها علمتني أن جودت ليس عنده شىء بدون مقابل وكشفت لي عن مكنون ذاته في حب السيطرة على الأخر و سحقه وتملكه بعد أن ينقض عليه كالعقاب الجائع ، و فسرت لي طبيعة علاقة لم أكن أفهمها بين رمضان وجودت ، لكني لمت كثيرا على صاحبي قبوله هذا الوضع و أستمرائه أياه حتى صار قيدا يطوق رقبته ، و رحت أنفخ فيه مرة ثانية روح الكبرياء ، والحقيقة ان رمضان لم يكن فاقدا للأعتزاز بالنفس ولكنه كان يؤسسه على الكفاح و المكابدة والفقر الشريف الذي لا خجل منه ، ولذلك لم يرى غضاضة في أن يسكن في هذا المستوى لأنه في طور بناء مستقبله ، لكن هذه المصطلحات ليست ضمن قاموس جودت الذي تحكمه مصلحته الشخصية ومدى احتياجه للأخرين ومدى احتياج الأخرين له ، كان دائما يردد عبارة غشها من الدكتور اسماعيل شامل ، عندي ثلاثة أنواع من الموظفين نوع بيشتغل ونوع بياكل عيش ونوع مفروض عليه ، وبينما كنا نتبادل الرأي دق هاتف رمضان المحمول ،كان المهندس جودت هو المتحدث بلهجة هادئة واحترام شديد طلب من رمضان المرور عليه في الصباح بمنزله بضاحية الزمالك ليكلفه ببعض الأمور ، لاحظت مدى قدرة جودت في التأثير وتحكمه في وتيرة العلاقة صعودا وهبوطا فقد بدا رمضان منتشيا بالمكالمة وأرتفعت معنوياته فجاة لمجرد ان الرجل حدثه بأسلوب هادىء ، أنفض هذا اللقاء بيننا وقرر رمضان البدء في البحث عن شقة ليدشن لمرحلة مختلفة من العلاقة مع المهندس جودت او هكذا كان يمني نفسه.
*****************

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق