الأربعاء، 3 يونيو 2009


وقت ثقيل
شارفت عقارب الساعة على الرسو فوق الرابعة عصرا ، جلست على مكتبي أترقبها بنظرات قلقة ، متأففا أقضم اظافري ألتفت يمنة ويسرة ، كنت قد فعلت كل شيء ، لتمضية الوقت حتى يحين موعد الأنصراف ، شربت على مدار اليوم ما يقرب من ستة أكواب شاي كبيرة ، حتى الشاي الليبتون تبدل مذاقه ، أمسى طعمه مجنزرا ، قرأت الجرائد الثلاثة بالتفصيل ليس فيها جديد عن جرائد الأمس مجرد تغيير أماكن الأخبار ، تحدثت مع زملائي عن أخبار الجرائد المملة وفيلم السهرة الأجنبي المعاد خمسين مرة فليس عندنا دش ، و أحوال الشركة التي لا تسر عدو ولا حبيب ، أجريت عددا من المكالمات التليفونية الخاصة ، تبادلت نظرات ساخنة خبيثة مع زميلتي رانيا ، فأنا حريص على أن تراني أنظر لنهديها البارزين و سروالها الضيق لتعرف كم أنا مفتون بها ، كثيرا ما تغامزنا أنا وزملائي حول هذا السروال ، لابد انها تقشره عن فخذيها عندما تعود للمنزل ثم حين ترتديه فأنها تلصقه قطعة قطعة ، كنت أعلم فرحتها بنظراتنا وتعمدها اغراء المحيطين بمفاتنها القوية وصوتها الناعم وملامحها الدقيقة و بشرتها المصرية المائلة الى السمرة قليلا و قوامها المتحيز لبعض السمنة كانها شلتة أسفنجية مقسمة بدقة مثال متفاني ونجدت بضمير فنان موهوب ، تبدو بضة ملفوفة جدا متوسطة الطول ، تعتني بنفسها عناية فائقة ، كانت رانيا بحق فتاة جميلة و دلوعة أنيقة ، و الأهم من ذلك انها كانت تجيد ابراز هذا كله أمام الجميع بحرفية كاملة و خاصة أمامي ، تحاول ان تفوز بعريس من الشركة أو من أي مكان المهم أن يكون غنيا ووسيما و كامل الأوصاف ، والواقع أن فتيات الشركة جميعا كن يتنافسن تنافسا خفيا على أستمالة قلب أحد الشباب ناحيتهن فقد كنا أنذاك في مقتبل العمر ، وكنت حينئذ فتى وسيم بوجه سينمائي ، ، طويل وعريض ذو جسم رياضي ، ذكي ، أتمتع بروح الدعابة ، أو كما كن يقلن عني همسا ( دمه خفيف ) ، أحافظ على شخصية جذابة وذات حضور ، وبالطبع غير متزوج ، أنا من جانبي أعلم مدى أعجابهم الحذر بي فهن كن يخفن كثيرا ، من هذه الرجولة النافرة والمتعطشة أيضا !! كان هذا هو حالي في كثير من الوقت ، أذهب للعمل صباحا لأجلس هكذا أنتظر ميعاد الأنصراف ، فضغط العمل غير منتظم هذه الأيام.... كان كل ما يقلقني في هذه اللحظة أن يصدر الأســــــتاذ (عارف فهيم الحدق) المدير المالي فرمانا بالسهر في هذا اليوم فهذه متعته و عادته ، فهيم في البنك منذ الصباح وغالبا لن يعود اليوم ، دخل الأستاذ كامل أبو المحاسن رئيس الحسابات مسرعا يبحث عن منديله القماش الكاروه ، مشمرا بنطاله حتى الركبة ومحدثا أصوات دقات مزعجة بقبقابه تتساقط منه قطرات غزيرة من المياه بعد ان فرغ من الوضوء ، أبو المحاسن هذا كان عجيبة من عجائب الزمن فهو موديل قديم وعتيق جدا من الرجال بحيث أنه أنقرض تماما و لم يعد له شبيه ألا من بين كل الف رجل رجل ، و على الرغم من صغر سنه فلم يكن قد بلغ الثلاثين بعد الا انه كان يبدو في الأربعين من عمره أو أكبر بسبب هيئته الأثرية وشاربه وشعره الكث الخشن غير المهندم ونظارته الطبية السميكة و بنطاله الواسع جدا عليه ، الذي يبدو فيه صياد سواحلي قراري ، أو بمبوطي مهرج ، و كرشه المقلوظ البارز امامه دائما يتمايل يمنة ويسرة ، كان الأستاذ ابو المحاسن يشبه مستخدمين حقبة الأربعينيات وربما الثلاثينيات من القرن الماضي على أحدث تقدير ، أصحاب الطربوش والأكمام السوداء التي كانت تحمي أساور القمصان انذاك ، فطريقة كلامه الريفية التلقائية لم تعد مألوفة هذه الأيام و كل من يدخل عليه المكتب من خارج الشركة يدرك انه يتعامل مع شخصية من أفلام الأبيض والأسود ، فصارت تعبيراته ومصطلحاته مسارا للتندر والتعليق الضاحك بين المحاسبين ، فيما هو غير مكترث بذلك بل غير شاعر على الأطلاق بأي فجوة زمنية بينه وبين هذا العصر ، رائحة عرقه الرحالة في الحجرة تعمي الأنوف صيف شتاء ومع ذلك يصر على أرتداء نفس الفانلة البوليستر الرمادية بنص كم كل يوم ، فهى مزيج من الخل والحلبة ، حبات العرق تنزلق على ذراعه تصنع خطا لامعا قبل أن تنقط فوق الأوراق المبعثرة على سطح مكتبه ، وكأن صنبورا غير محكم الغلق مثبت تحت ابطه ، وكأنه يعتز برائحة الأشمئزاز ، وكأنها منبع عبقريته المحاسبية ، تفاءلنا خيرا حين تزوج فلابد ان زوجته سوف تجبره على الأستحمام والا فانها سوف تموت مختنقة ، لكن ذهب تفاؤلنا كمفقود استحالت عودته ، هو رجل تقليدي بكل معنى الكلمة لم يمارس اي نوع من الرياضة في حياته حتى ان مشيته تذكرني بشارلي شابلن ترتفع حقيبته الجلدية في الهواء ثم تهوي سريعة كأرجوحة المولد ، أعضاؤه لا مركزية الحركة كل عضو يمشي بمفرده ، مشجع متعصب لكرة القدم فهو اهلاوي قلبا وقالبا و محلل واعي للمباريات ، هذا هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يتحدث فيه أثناء أوقات العمل الرسمية فيما عدا ذلك فهو منكب طوال اليوم على دفتر الموردين او حركة الخزينة او مراجعة المرتبات التي كان يحبها جدا و يؤديها بمزاج ، أبو المحاسن محاسب شاطر جدا وأكثر ما يميزه الدقة وذاكرته الحاضرة وكذلك قوة تحمله للعمل وصبره الشديد عليه فهو لا يستطيع ان يجلس بدون عمل لحظة واحدة ، يخترع أي عمل ليشغل وقته ، يخاف أن يقول احد أنه يجلس بدون شغل ، وله ميزة أضافية من وجهة نظر الأستاذ عارف وهى تقبله لوصلات مطولة من القدح و الأهانات التي يكيلها له عارف فهيم الحدق و كان الأستاذ عارف يعتمد عليه بالكلية و يثق في بياناته و أرقامه فاخطاؤه تكاد تكون معدومة ، أبو المحاسن موظف حتى اخمص قدميه لذلك فهو متوافق جدا مع كل الأوضاع ، و أهم ما يعيبه ضعف شخصيته الشديد و خوفه المذهل من أي شيء وكل شيء وعلى الرغم من كونه رئيس الحسابات الا انه كان يفضل دور الرجل الثاني او رجل الظل في العمل ، فكان يقدمني عنه في مواقف المواجهات خاصة مع رئيس مجلس الأدارة ، عارف فهيم كان يستغل هذا العيب جيدا ويوظف امكانيات أبو المحاسن لصالحه خاصة وأنه من نوع الموظفين التنفيذيين الذين لا يفكروا كثيرا فيما يؤديه من عمل و انما ينفذه بحذافيره على سبيل التكرار والأعتياد كما ان طموحاته بسيطة تنحصر في اشياء متواضعة تسهل تلبيتها ، .... أخيرا وجد أبو المحاسن منديله بعد ان أحدث بركة من المياه حوله ثم أخذ يرتدي جوربه برائحتة المميزة وهو يسألني عن الساعة ، أجبته بأنها أوشكت على الرابعة ، كان أبو المحاسن يتباطء يوميا ليسهر فالسهرة سوف تضمن له ساندوتش ( فاهيتها لحم أو فراخ ) و الذي ادمنه أدمانا ، أو معشوقه الأوحد ساندوتش جمبري جامبو شهي من أحد محلات الطعام المشهورة ، فهذه النوعية من الطعام الجاهز تمثل ثورة مذهلة بالنسبة له ادارت عقله ، و فوق ذلك يحسب ساعة السهرة بساعتين وهو خير من يحسب مستحقاته بالمليم ، أخيرا لامس عقرب الساعات الرابعة نهضت مسرعا ناحية السكرتارية لأوقع بدفتر الحضور والأنصراف وأحصل على الأفراج الشرطي كما كنت اسميه ، فهو افراج لأنه يتيح لي التحرر من ربقة الوظيفة لأخرج الى رحابة الحياة وضوضاء المدينة والتسكع في شوارع وسط القاهرة ، أنساح بين الزحام متجولا بغير هدف أبحث عن شيء لا أعرفه ، ربما فرصة أو صدفة او لحظة حظ ما ، تارة أتلكأ أمام الفاترينات العامرة بالملابس والأحذية رغم أني لا أنوي الشراء وتارة أحدق في وجوه المارة ، وهذه احدى هواياتي المحببة ، تستهويني لعبة علاقات الشبه بين الغرباء واناس أعرفهم فمسألة الشبه تنطوي في نظري على اسرار ونظريات وفلسفة و حكمة عميقة ، وسيلة أروح بها عن نفسي قبل الأياب للمنزل ، أحاول ان أغير أيقاع الرتابة المسيطرة على حياتي ، و هو شرطي لأنه لا يدوم الا بعض الوقت سويعات قليلة ما ألبث بعدها ان أعود مرة اخرى في الصباح مرغما ، لنفس المكان ونفس الحجرة ونفس الأشخاص ، العمل في هذه الشركة وفكرة الوظيفة والتقوس على كرسي خلف مكتب طوال النهار تمثيلية مكررة ومحبطة لكل طموح ، أو تبشر بالمستقبل الذي كنت أحلم به وأتمناه أثناء الدراسة ، لكنها شروط الحياة و تحدياتها وفي النهاية لابد ان أعمل ، كنت لا أكف عن البحث عن الأفضل ، غير ان ظروف السوق ليست في صالحي فليس امامي سوى الأستمرار حتى يأتي الأفضل ، بمجموع 75% رمى بي مكتب التنسيق في كلية التجارة ، أنا لم أحب هذه الكلية ، مستبد جدا مكتب التنسيق هذا ، لكن ما ذنب مكتب التنسيق أنها مذاكرتي وقدراتي العقلية هى التي أوصلتني لذلك ، المهم لم يعد التفكير في ذلك مجديا الأن بعد ان تخرجت وتسلمت عملي في هذه الشركة (محاسب) على الأقل أنا أحسن من غيري الذي تخرج من سنوات وليس له وظيفة ، كذلك كان خالي الذي توسط لي لدى الأستاذ عارف دائما يقول لي حين يشعر بالبطر و السخط وقد تفشى في تصرفاتي ، أو يشكو له مني الأستاذ عارف بسبب تأخيري وغياباتي المتكررة ، كنت احسد كامل أبو المحاسن على أنسجامه النفسي ما عمله ..... هرولت ناحية الدفتر أفتش عن قلم أوقع به بينما صفاء السكرتيرة تصوب نحوي نظراتها الحادة ، قائلة بلهجة جامدة (مالسه بدري) وصفاء شخصية متسلطة بطبيعتها تستمد قوتها من كونها سكرتيرة رئيس مجلس الأدارة ، تواجه ظروفها الأجتماعية الصعبة بشخصية صعبة المراس ايضا و أسلوب متعجرف وجاف مع الأخرين خشية أن يستهتر بها البعض أو هكذا كانت تعتقد مثل كثير من الناس ، بحيث تبدو قوية أو مفترية جدا ، أنسانة ناقمة على حياتها ونصيبها من الدنيا تنظر لنفسها باعتزاز شديد و ترى انها كانت تستحق أفضل من ذلك بكثير على الرغم من تعليمها المتوسط . أستطاعت أن تتعرف على والد رئيس مجلس الأدارة في احد دور المسنين الذي كانت تعمل به ، رجته أن يتوسط لها لدى ابنه لتتوظف بالشركة ، فهى تعول أسرة فقيرة مكونة من ام واخ وأخت بعد وفاة والدها ، صفاء لم تترك واحدا في الشركة الا وفكرت في الأرتباط به ، حتى المهندس جودت نفسه رئيس مجلس الأدارة ، حدثتها نفسها به ولما لا و هى تعرف حقيقة علاقته الميتة مع زوجته ، ولما لا ومعظم أصحاب الشركات يفعلوا ذلك مع السكرتيرات سرا ، مستعدة لتتزوجه حتى ولو عرفي ، المهم أن تهرب من شبح العنوسة ، المهندس جودت أيضا أنطرح الأمر بمخيلته مرات عديدة ، لكنه تراجع خشية من العواقب الغير محمودة ، حتى صفوت زميلنا في الحسابات و بالرغم من أنه قبطي لم يمر من تحت عقلها اليائس ، حدثني صفوت ذات يوم في لحظة صدق نادرة أن صفاء أقترحت عليه أن يعتنق الأسلام وتتزوجه فليس لديها أعتراض على شخصه شريطة ان يكون مسلما ، صفوت كان على دراية بظروفها وصراعها مع الزمن ، عزف على هذا الوتر بدربة كبيرة ، أقترب منها أكثر فاكثر يغذي في نفسها الشعور بالأضطهاد و الوحدة الذي يجمع بينهما ، شعرت بالأرتياح لوجود شخص يشعر بها ويحدثها بما يدور في خلدها واهما اياها بأهتمامه ، حاول كلاهما خداع الأخر بأسم الحب الزائف ، نصب كل منهما شراكه للاخر ، هى تريد عريسا بشروطها و هو يرغب في فريسة بطعم جديد ، لكنهما أفلتا من الشراك المتبادل ، هذه القصة بينت لي سر الكراهية المتبادلة التي حملها كل منهما للأخر فيما بعد وحتى تزوجت صفاء بعدها وتركت الشركة ، صفاء تقترب الأن من الثلاثين وحلمها أن تجد أبن الحلال لكنها تستعين في البحث عنه بأسلوب منفر وعصبي يحصد المعجبين بطولها الفارع و قوامها المنحوت بمهارة فلا تستطيع ان تكون على وفاق مع أي شخص اكثر من دقائق معدودة ، بعدها يدوي الصراخ والضجيج والخناق الذي يكون مأله لغرفة المهندس جودت لتبادل الأتهامات والشكوى ، كان الرجل يتعاطف معها في البداية لكنه سرعان ما ادرك أن المشكلة تكمن فيها هى وبعض الأخرين مثل الأستاذ رمضان حسونة مندوب المشتريات ، الذي كان هو الأخر شخصية كاريكاتيرية مثل رسومات الكارتون المتحركة ، يتبع نفس المنهج الهجومي في التعامل مع الناس خاصة وأن هيئته الريفية البسيطة وملامحه الفرعونية الحادة فهو يشبه اخناتون و نحافته المفرطة مع طول قامته الواضح ونظارته المقعرة جدا تجعل كثيرا من الناس يتعامل معه بدون أكتراث ، أضف الى ذلك أسلوبه الفظ في التعامل مع الأخرين ، كل هذا يجعل منه شخصا لا يطاق ، يصطدم به كل من يتعامل معه منذ الوهلة الأولى لاسيما وأنه يتعالى على الناس كثيرا ، رمضان كان يتصور ان ظاهره المتواضع جدا سوف يجعل الناس تستخف به أيضا و كان محقا في ذلك لحد بعيد ، وبالأخص كل من يعرف قصة تعيينه في الشركة لذلك كان يتعامل مع الناس بكبرياء مصطنع ، بالأضافة لأنه يعتقد انه أديب موهوب و مثقف حتى النخاع و انه من نفس قماشة نجيب محفوظ و يحى حقي واحسان عبد القدوس ، يؤمن بأنها ليست ألا مسألة وقت وينشر عمله الأدبي الأول ، يواظب على حضور الندوات الثقافية والتردد على مقاهي المثقفين ومجالستهم ، يفتخر بانه جلس مع فلان الصحفي المشهور وفلان الكاتب في مجلة كذا ، مثله الأعلى بلدياته الشاعر محمد عفيفي مطر فهو مولع به وبأعماله ، حريص على مقابلته بانتظام و عرض محاولاته الأدبية عليه ، معتبرا أياه الأب الروحي له ، الأستاذ كان ينصحه دائما بالتريث وعدم التسرع و ان موهبته لم تنضج بعد ، ويبدو ان الأستاذ عفيفي مطر حينما قرأ محاولات رمضان الأدبية لم يجد فيها ما يبهره او ينبأ بموهبة حقيقية يمكن ان تلفت الأنظار وسط هذا الخضم المتلاطم ، ولكنه لم يشأ ان يحبطه ، لقد حذره الأستاذ كثيرا من هذا الطريق ومشاقه ونبهه أن الأدب مثل عشيقة عاشقة لا تحب شريكا معها واذا اراد ان ينجح فيه فلابد أن يضحي بما دونه ويتفرغ من أجله ، رمضان كان بين شقي رحا فالوظيفة هامة بالنسبة له بدخلها الثابت و الأستقرار الذي وفرته بعد شقاء ظل يطارده لسنوات ، والأدب والكتابة هما الأمل في التخلص من عبودية الوظيفة وقيودها لكن الأستمرار في الأثنين سوف يضيع كلاهما معا ، لم يكن رمضان مستعدا للتضحية ، لن يترك الوظيفة ولن يترك الحلم سوف يحاول جاهدا ان يستمر فيهما معا ، لذا ظل رمضان يدور في حلقة مفرغة ، يراوح مكانه طوال عشر سنوات ، كان كثير القراءة بنهم شديد رغم ضعف بصره ، لديه مكتبة كبيرة ويشتري كتبا كثيرة كلما سنحت الفرصة ، لكنها تبدو صعبة جدا وتحمل عناوين غريبة ومتعمقة في موضوعات متخصصة للغاية في النقد وعلم النفس و الشعر ، ربما كان يجيد اختيار الكتب و قرائتها لكنه أبدا لم يجيد فن التعامل مع الناس ، تعرف رمضان على المهندس جودت رئيس مجلس الأدارة عن طريق صديق جودت أسمه منصور جريشة وهو رجل تامين محترف ، كان رمضان مندوب مبيعات يجوب المنازل والشركات ليسوق بعض المنتجات ، وأثناء جولته بشركة التامين تعثر في منصور جريشة ، كلاهما كان يبحث عن الأخر ، جريشة كان يبحث عن شخص يهديه لصديقه جودت ليقوم بالمهام الشاقة في الشركة الجديدة بمرتب زهيد لأن الشركة ناشئة حديثا و رمضان كان يبحث عن عمل مستقر ينقذه من المبيعات وعملها المرهق الشبيه بالتسول ، رأيه أن كلمة مندوب مبيعات هى الوصف العصري لمهنة بائع سريح ، و هكذا وجد كل منهما ضالته في الأخر ، حين شاهده المهندس جودت اول مرة أعترض عليه أعتراضا شديدا وحاول التخلص منه ، فكان يأمر الساعي أن يصرفه من المكتب بهدوء ، كانت هيئته رثة جدا و رائحة الفقر الممزوجة بالعرق تفوح من ملابسه الباهتة ، لكن رمضان لم يكن ليضيع الفرصة من بين يديه ، أصر على الذهاب يوميا للشركة وأنتظار المهندس جودت ، وعرض نفسه عليه ، بل و فرض نفسه على المكان فرضا ، فالشركة في حي الزمالك والبناية جميلة والمكتب مكيف والمكان عذب و نابض بحياة مترفة ، المبيعات ليست عمل رمضان الأول في القاهرة بل سبقته أعمال كثيرة في مقهى بلدي ثم في محل كشري فهذا هو المتاح في هذه البلد لشخص معدم و قادم من الأرياف مؤهله بكالوريوس خدمة أجتماعية ، وبالتالي عندما تتلالاء في الأفق فرصة مثل تلك فلابد من التشبث بها حتى الرمق الأخير ، المهندس جودت رجل يشبه الأتراك في شكله وهيئته المهيبة فهو رجل طويل جدا وجهه ابيض مشوب بحمرة عينه تميل للزرقة ولها لمعة الذكاء والفطنة ، هيبته وهيئته الفخمة توحي بشخصية قوية و ثقة في النفس لا حدود لها ، كل هذه المظاهر تجعل من الرجل شخصية جذابة للعمل معه فمثل هؤلاء الأقوياء يحتاج رمضان وأمثاله لأن يحتمي فيهم و ينضوي تحت ظلهم الظليل ، أبدا لا يجب ان تتفلت هذه الفرصة بأي حال هكذا كان رمضان يحدث نفسه ، حتى وافق الرجل بصعوبة ان يعينه مندوبا للمشتريات ولا يزال عبد الله العتر الساعي يذكره بهذه الأيام كلما تشاجر معه قائلا له : أنت نسيت كرسي الحمام اللي كنت بتيجي تقعد عليه ونمشي فيك مش عاوز تمشي ، و الحقيقة أن منصور جريشة أقنع جودت بأن هذا هو انسب شخص لطبيعة العمل فهو حمار شغل بمرتب تافه ولن يعترض على أي نوع من العمل ، كما أنه بهذه الهيئة يمكن ان يأمنه على خصوصياته وعلى شئون البيت و أحتياجات الأسرة الخاصة ، دائما ينعي رمضان حظه العثر ويرثي واقعه المؤلم وتاريخه الحافل بالمشقة والمرض ثم يحمد الله على كل حال ..... بينما ههممت للخروج من باب الشركة قابلني الأستاذ فهيم عارف الحدق المدير المالي قادما من البنك وهو ينادي على أحد السعاة ليأخذ منه الحقيبة وعدد من الأكياس التي كان يحمل فيها اغراضه الخاصة من طعام ودواء وأشياء أخرى غير معروفة ، انها مفاجأة غير سارة ، فهيم يعرفني جيدا لأنه سبب تعييني في هذه الشركة ، فهو صديق شخصي مقرب لخالي المحامي المعروف بالمدينة التي نسكن فيها معا، مدينة البدرشين ، و على الرغم من ذلك فأن فهيم لا يحبني و لا يثق في اطلاقا ، وقد ساعد على ذلك طبيعته المتشككة في كل من حوله وعلاقته السيئة برئيس مجلس الأدارة المهندس جودت ، فهو يعتقد ان جودت رئيس مجلس الأدارة نجح في استمالتي لصفه والسيطرة علي ليستخدمني ضده ، فهيم كان يشعر انه تورط في ألحاقي بالعمل معه ، ولولا خالي وعلاقات المصالح لكان أستغنى عني منذ البداية ، وهو لم يشعر بالندم في أي وقت مثل شعوره به حيال مساعدته لي للتوظف في هذه الشركة ، أنا أيضا لم أحب هذا الرجل منذ اليوم الأول فهو عصبي وسريع الغضب وديكتاتور في مكانه ، يحب المظهرية كما انه لا يعرف معنى حد الجميل ، هو يريد دائما أن الهج بكلمات الفضل والثناء عليه لأنه وفر لي فرصة عمل كما لو كان وظفني في مجلس الوزراء مثلا ، وأكثر شيء جعلني أمقته و أبصقه من نظري هو سرقة مجهود مرؤسيه و نسبته لنفسه بحيث يكون شمسا ساطعة و يبقوا هم تحت الطين العطن كعلقة الصيد ، أتفق فهيم منذ البداية مع المهندس جودت أن فريق العمل معه يكون من أختياره وبمعرفته ووافقه جودت من باب أبداء حسن النية له ، كان فهيم يهدف من ذلك أن يأتي بمجموعة من عديمي الخبرة ومن يسهل السيطرة عليهم ليشكلهم على هواه لذلك أختارهم من معارفه الشخصيين ، لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن وجدني شخصا غير قابل للطي وأكبر من أن يستوعبني أبطه العفن ،، لا أعرف كيف أدير أموري بحكمة و كياسة تجنبي الأرتطام بشخصية صدامية مثل عارف فهيم ، كنت أنذاك رخوا بعض الشيء وليس لديي هدف من العمل ، فكرتي عن العمل أن أذهب في التاسعة وأرحل منه في الرابعة ، في شخصيتي نزق الهواة و رعونة غر متهور وخفة تنطوي على الأندفاع بدون حساب ، كل مؤهلاتي أني ذكي ولماح لكن بدون أي خبرة لم أتعلم شيئا قبل دخول هذه الشركة ، ثم ما لبثت ان أكتسبت خبرة المهنة من المحيطين بي و خاصة صفوت وكامل فقد تعلمت منهما الكثير ، وكثيرا ما شبهني جودت بزميلي صفوت قائلا لي أنني النسخة المسلمة من صفوت في عدم الألتزام و عدم الشعور بالمسئولية... أنقضت السهرة وتناول كامـــــــل ( كومبو) الجمبري الجامبو اللذيذ في سعادة غامرة لا يضاهيها اي شعور أخر بالنشوة فقد كان يتحمل أي شيء ما عدا الشعور بالجوع ، عندها ينهار تركيزه و تخور قواه ولا يقوى حتى على الكلام ثم يفقد اعصابه ، و كامل حين يأكل يختلف عن أي أنسان أخر لأنه يصدر من فمه صوتا يشبه صوت الأقدام حين تلامس حافية أديم أرضية زلقة ، عبارة عن طرقعات عالية أثناء المضغ تشبه التشدق بعلكة لدنة و هو يضغط على الساندوتش بكلتا يديه ضغطة خانقة تجعله يفيض في يديه بمحتوياته السائلة بصورة مقرفة تصيب الجميع بغصة بينما هو منهمك غير عابىء وكأن الأمر لا يعنيه ، يلحس اصابعه في تؤدة مستمتعا ، اصطحبنا الأستاذ فهيم أنا وكامل في سيارته ليوصلنا معه للبدرشين ، بعد يوم عمل طويل وحافل ، لكن الكلام عن الشركة لا ينتهي ، فهيم يواصل الحوار في السيارة ، نظرته التشاؤمية غالبة على رؤيته لمستقبل الشركة في ظل وجود جودت على رأسها ، لم يتوقف عن الكلام وهو يحث كل منا على البحث المستمر عن عمل بديل وعدم الركون لهذا العمل ، بينما كامل يؤمن على كلامه ويوافقه في كل شيء ، عدم المعارضة صفة يحبها فهيم جدا في كامل بينما جلست في الخلف ألوذ بالصمت لم أعلق ، ظن فهيم أني لا أوافقه لذلك بين لحظة وأخرى يسألني (والا أيه يا أستاذ رشدي) ، أؤمن على كلامه لأني أريد لهذه الصحبة الكئيبة ان تنتهي سريعا فأقول له : ( لا طبعا عندك حق يا ريس) ، سيطر الصمت على السيارة ، كامل غط في نوم عميق ، بينما أنظر من الزجاج الى لا شيء و فهيم قابضا على عجلة القيادة يجرح الصمت بين الحين والأخر بنفخة قوية من أعماق صدره ، تشق سيارته ( البلونيز) البيضاء ظلام الليل الدامس حتى وصلت ونزلت أنا و كامل بينما لا يمل عارف من تكرار وصيته لنا بعدم التأخير غدا .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق