الاثنين، 1 يونيو 2009
الكنبة
خمسة شهور مضت منذ ان انهيت الخدمة العسكرية ، وها أنا ذا ما زلت بدون عمل ، أقضي معظم أوقاتي قابعا بالمنزل متسمرا أمام التلفاز حتى الساعات الأولى من الفجر ، ثم انام لأستيقظ قبيل أذان العصر ، بعد سهرة صباحي كل يوم يكون مكاني المفضل للنوم ، هو الكنبة الأستوديو الملحقة بحجرة الصالون فهى طويلة وعريضة ومريحة جدا ، أفضل النوم عليها عن أي سرير منذ سنوات ، فهى تمنحني شعورا بالدفء والأحتواء والأمان ، و يعودني النوم عليها سريعا عميقا هادئا دون تردد ، ، أطلقت عليها امي كنبة رشدي نسبة لي ، وهى واحدة من ثلاث كنبات كانت ضمن جهاز والدتي ، الكنبات بحالتها بعد أكثر من عشرين عاما بفضل محافظتنا وعناية أمي الفائقة ، عمل كسوة سنوية جديدة لهن في العيد الصغير هو تقليد أسري ثابت ، أصبحت هذه الكنبة هى عنواني الحقيقي في البيت ، وهى محور رئيسي في أي حوار معي من أفراد الأسرة ، رشدي فين ؟ هايكون فين يعني نايم على الكنبة ، أعمل حاجة بدل ما انت نايم على الكنبة طول النهار كده ، وهكذا .... ، ثم قفزت شهرتها من نافذة بيتنا لتصل لأصدقائي وأقاربي ، فكل من يتصل بي يقال له أن رشدي نايم ، فيأتي سؤاله التلقائي .. على الكنبة بارده ؟، وأيام الدراسة في المرحلة الثانوية ثم أثناء الجامعة كانت مذاكرتي أنا وزملائي في هذه الحجرة سرعان ما تنتهي في بداية الليل ، لنبدأ نصب دوري الشطرنج فوق الكنبة ، وحين ننتهي مع زقزقات صوت الفجر وقد انهكنا السهر ، يفترش كلانا او ثلاثتنا أرائك الصالون ، اخص نفسي بكنبتي العزيزة ، هذه العلاقة الخاصة بيني وبين الكنبة توطدت جدا في شهور البطالة لأنني كنت انام عليها لأكثر من خمسة عشر ساعة متواصلة يوميا ، أعايش كوابيس وأحلام شتى ، لم أخوض من قبل تجربة البحث عن عمل ، فأنا لم أتعود هذه الكلمة ولم يشعرني احد بأني في حاجة اليه ،، لم يسبق لي العمل في أي مكان من قبل حيث كان يرى والديي ان مهمتي في هذه المرحلة هى التعليم فقط ، كذلك فأن البيئة التي نشأت فيها هى عبارة عن مدينة محدودة يغلبها الطابع الريفي ، كما انه لم تتاح لي الفرصة لأتعامل منفردا مع كثير المواقف و أحداث الحياة التي مرت بي ، كان دائما والدي قريبا مني يحل لي كل المشكلات ويذلل لي كل العقبات ويجري الأتصالات اللازمة لتسهيل الأمور لي ، لذلك كنت مستسلما للكنبة ، لا أشعر بأي قلق من طول فترة أستلقائي عليها ، و ما حاجتي للعجلة في البحث عن عمل وانا أحصل على مصروف شهري جيد ، أفضل من أي مرتب من المفترض ان أبدأ به ، كما اني على يقين من الألتحاق بأي عمل أن أجلا أو عاجلا ، أن هى الا مسألة وقت ، فلابد أن يصيبني دور البطالة مثل كل الناس ، فهو دور لابد ان نعاني منه مثل الحصبة والجدري و التيفود ، كما ان العمل اليوم يحتاج لواسطة ومعرفة وعلاقات ... ألخ ، ثم هددني والدي في الشهر الخامس بقطع المصروف عني اذا لم أتحرك و ألتحق بأي عمل حتى ولو بدون اجر على سبيل التدريب ، لمجرد الخروج من المنزل و الأبتعاد عن النوم وهذه الكنبة اللعينة ، بل وصل به الأمر الى حد التهديد في لحظات الغضب بتحطيمها او بيع الكنبات الثلاثة !! ، خرجت لا أعرف ماذا أفعل كيف ادخل الشركات وأعرض نفسي ، و كيف سيقابلني الناس هناك ، رأيت اوراقي تلقى بسلة المهملات و انا التفت خارجا ، توزيع الأوراق على الشركات بهذه الطريقة فكرة فاشلة ، ما لم تكون في حاجة فعلية لموظفين ، رغبتي في العمل بمؤهلي هو حلم بعيد المنال كنجوم السماء ، تابعت أعلانات الجرائد ، أخرج في الصباح تشيعني لعنات والدي وشتائمه المنتقاة بعد أن يوقظني بشق الأنفس ويسحبني من فوق الكنبة ، أشتري الأهرام قبل ان أقطع تذكرة المترو من محطة المنيب وعلى المقاعد الرخامية المستطيلة والمظللة بالمحطة أجلس أتصفح الجرنال باحثا عن وظائف خالية لا تحتاج لسنوات خبرة في المحاسبة ، معظم الوظائف المتاحة مبيعات ، أخيرا وجدت عدة وظائف في المحاسبة ، تقدمت اليها برغبة ملؤها التفاؤل ، غير ان عدم الخبرة و السكن على بعد مسافة طويلة حيث أقيم في البدرشين ، دائما يحولا دون الفوز بفرصة مناسبة ، مع مرور الأيام و دون كوة ضوء تبدد هذه الظلمة ، يئست وعدت أواقع كنبتي ، أزعم انني أنتمي للطبقة المتوسطة والديي من الموظفين أصحاب المرتبات الشهرية ، كنت وحتى سن الثامنة عشر من عمري مصابا برهاب الأبتعاد عن المنزل أو الخروج خارج حدود المدينة بمفردي دون أبي أو أمي ، يخيل لي أني لن أستطيع العودة ، فربما اقابل قاطع طريق يقتلني بغير جناية أقترفتها أو ربما أضل طريقي أو ربما تضيع نقودي فلا أستطيع دفع قيمة المواصلات ، ربما و ربما ، غربان من خيالات سوداء تحوم حول رأسي ، اذكر أيام ان كان يقتادني أبناء عمومتي و أخي الأصغر كأضحية تساق عنوة لمرآب سيارات الأجرة في أوان الأعياد ، لنسافر لحديقة الحيوان أو سينما فاتن حمامة أو وسط البلد لنلهو في اجازة العيد مثلما يفعل الصبيان ، ما ان نصعد السيارة كنت ألتمس الفرصة السانحة حتى أنفلت منهم فأغافلهم و اهبط من السيارة أعدو هاربا ، أقضي الأجازة وحيدا مستمتعا بالجلوس امام التلفاز أو قراءة كتاب ما أو نائما لفترة طويلة على الكنبة أياها ، المهم ان اكون في البيت ، فهناك يتكاثر بداخلي الشعور بالأمان ، دائما انظر بأعجاب شاهق لشخصية أسامة بن زيد حين ولاه النبي (ص) امارة الجيش على فطاحل الصحابة وهو ابن السابعة عشر من عمره ، فتى يقود جيشا في حربا ضروس حقيقية فيها ما فيها من القتل والموت أي اقدام وشجاعة تلك ، اي أناس كانوا هولاء ، أين أنا منهم ، أول مرة أخوض فيها أمتحان الخروج بعيدا عن المدينة مجبرا حين دخلت الجامعة في القاهرة ، كان لا مفر حينذاك من ان اذهب بمفردي ، أنست عددا من الطلاب من نفس مدينتي أروح وأجيء معهم لأغازل الطمأنينة ، ويوم ان أختلفت محاضراتنا و أضطررت للعودة بمفردي لعبت الأقدار لعبتها حتى يوفقني الله لأجد سيارة خالي المسروقة ، والتي كان يسافر بحثا عنها في كل محافظات المحروسة ، يقول له فلان انه شاهدها في بني سويف فيذهب ويقول له أخر انه لمحها في أسيوط فيترك تجارته وحاله ويذهب ، كنت مشفقا عليه جدا وحزينا من أجله لعلمي كم يكدره هذا الأمر ، ليس من اجل السيارة وقيمتها فحسب ، ولكن العيبة الكبيرة التي لحقت به أن يسرق من هو مثله ، ففي بلدتنا الشبه ريفية تلك ، حيث العائلات الكبيرة لها مهابتها وكيانها وسطوتها و حدودها ، يعد هذا الأمر مخزيا أن فلان أبن فلان من العائلة الفلانية سرقت من عنده سيارة ، كان يؤلمه هذا الأمر للغاية و يغيب عن وجهه أشراقته المعهودة وسماحته التي يتصف بها و أبتسامته البيضاء ، يومها خرجت أمام الجامعة أنتظر أتوبيس البدرشين رقم ( 121) لكنه تأخر ، قررت ان أمتطي بساط الشجاعة مرة من نفسي وأركب أتوبيسا للجيزة ثم أأخذ ميني باص البدرشين من هناك ، جاء اتوبيس (810) المتجه للعمرانية تخيلت له خط سير في رأسي يوافق مآربي منه ، ظني انه سوف يدخل العمرانية من الكوبري الملتوي في شارع ربيع الجيزي بساقية مكي وبذلك يمر على مجمع مصالح الجيزة فهناك أنزل في المحطة حيث تربض أمامه سيارات البدشين ، غير أن الأتوبيس غدر بي و دون توقف زحف بسرعة تحت نفق نصر الدين ثم شارع الهرم عندها انغرزت مخالب الأرتباك والخوف في قلبي ، طفقت أبحث عن مخرج ألقي بنفسي منه قبل أن يوغل الأتوبيس في شارع الهرم ، مررت بجهد شاق وسط الأجساد المعلقة كالطيور المذبوحة في عمود مثبت بسقف الأتوبيس اتجاهل كلمات الزجر و النهر والزمجرة من الواقفين ، أخيرا القيت بنفسي اول شارع الهرم بعد النفق مباشرة رغم ان الأتوبيس كان سوف يلف ليدخل العمرانية من شارع ترعة الزمر لكن أنى لي أن أعرف ذلك في حينه ، عبرت الشارع ثم سرت متململا بين العمرانيتين الشرقية والغربية من جهة الشرقية ، بمحاذاة ترعة الزمر التي تقطعهما ، بعد قرابة مائة وخمسين مترا كنت اطوح عيناي في تفريعات الشارع الجانبية أتخير من بينها تفريعة قريبة أتسلل منها للجيزة , واذا بالسيارة على مبعدة مني في شارع جانبي خلف سور ادارة غرب الجيزة التعليمية مائلة فوق الرصيف كسفينة جنحت بفعل رياح عاتية ، يا ألهي .... أنها هى فعلا السيارة رقم 26204 نقل جيزة داتسون حمراء ، انها هى بالفعل سيارة خالي ، مغلفة بطبقة متجلدة من الأتربة الصلدة تكاد تطمس لونها ، أوشك أن أحتضنها بلهفة كحبيبة طال غيابها ، مسحت زجاج الكابينة لمحت بداخلها مقص حدادي عملاق ، فهمت أن السارق أرتكب بها سرقة ما ثم خلى سبيلها وهرب ، كان جليا أن وقفتها المحزنة تلك أستمرت منذ أيام طويلة ، فلا خوف ان أتركها كما هى لساعتين وأعود بسرعة للبلد حتى أزف البشرى لخالي وأولاده ، حين وصلت سألت عنه قيل لي أنه في الصعيد يبحث عن السيارة حيث شاهدها احدهم هناك ، قلت لولده بفخر وجدية انا وجدتها في العمرانية ، عدت اليها بزفة كبيرة من السيارات و الأهل والأقارب ، حين قصصت عليهم قصتي هذه فيما بعد ، تلقفها المرجفون بكثير من الريبة ، تحولت عيونهم لمدافع تطلق رصاصات الأتهام والشك ، فكيف لشخص طويل عريض مثلي أن يتوه في المواصلات بالجيزة بهذا الشكل ، شخص جامعي ومتعلم ، لم يكن احدا مستعدا لتصديق روايتي سوى خالي لأن في شخصيته نزعة أيمانية صوفية تفسح مجالا واسعا للقدر و تصاريفه ، ولثقته العميقة في معدني وسلوكي ، نزلت ابتسامته مرة أخرى تغرد على شفتيه بأمتنان ، و خلال سنوات الجامعة بذلت جهدا عاليا لأعالج نفسي من الرهاب الذي سجنت بداخله لسنوات طويلة ، لكن بعد أن ترك في نفسي اثرا عميقا جدا ، فقد طالت معي الطفولة الى ما بعد العشرين وأعيش مراهقة الشباب وانا في الثلاثينيات و اتوقع ان أصل لمرحلة النضوج في الأربعينيات بعد عدة سنوات من الأن ، دائما عمري يسبق عقلي وتفكيري ، لا أحب المواجهة والحسم ، أفضل الهروب والأرجاء ، أعيش على احلام اليقظة والأوهام وحين سعى لي خالي في الحصول على وظيفة عن طريق احد اصدقائه ، كان ذلك بناءا على توصية خاصة من والدتي ، شوف له حاجة لحسن الكنبة خدت من جسمه راق ، ونزولا على رغبتها و اشفاقا علي من هذه الكنبة المظلومة ، أوجد لي خالي فرصة عمل بشركة مقاولات في الزمالك ، يعمل فيها صديقه المدير المالي هناك الأستاذ/ عارف فهيم الحدق ، وبعد ان توظفت بزمن طويل ، ظلت والدتي في كل مناسبات الأستفسار عن أحوالي من الأهل والأقارب والمعارف : رشدي عامل أيه ، تقول لهم الحمد لله ، ربنا كرمه وأشتغل بعد ما قعد خمس شهور نايم على الكنبة !!!
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق