حين شاهدنا عبد الغني بلديات رمضان جالسين على مقهى البستان ، أقبل علينا بحفاوة غيرمعتادة ، وبدون مقدمات سحب كرسي داعيا نفسه للجلوس معنا ، كثيرا التقيت به هنا وعرفته عن طريق رمضان لكن لم يسبق لي أن عرفت عنه أكثر من أنه يكتب الشعر العامي ، عبد الغني هجر مهنته بالقرية في المنوفية وحمل أغراضه القليلة للقاهرة طامحا في ان يصبح واحد من شعراء العامية المعروفين في البلد ، يرى ان لديه موهبة لنظم الشعر العامي ينبغي الا تدفن في القرية بين السراق والفارة والمسامير ، كان يعمل في القرية نجار متخصص في صناعة السواقي و الطنابيرمع والده ، مهنة ورثتها الأسرة ابا عن جد ، لكن مع التطور التكنولوجي و انتشار ماكينة المياه ، أخذت المهنة في الأندثار و لم يعد احد يستخدم هذه الأدوات البدائية فضلا عن تآكل الرقعة الزارعية في القرية أمام زحف الخرسانة و عدم أقبال الفلاحين على حرفة الزراعة ، كذلك قلة المياه جعلت هذه الأدوات غير فعالة في الري فالمياه اصبحت عزيزة تحتاج الى ادوات ترفعها من العمق ، هكذا كان يبرر عبد الغني البتانوني لنا هجرته من القرية للقاهرة ، عبدالغني ليس معه اي مؤهل دراسي لكن ما اهمية الدراسة اذا كانت الموهبة موجودة طبقا لوجهة نظره فكم من متعلم لكن ليس لديه نفس الموهبة و لا يمكنه كتابة بيت شعر واحد ، و أسترسل عبدالغني في حديثه قائلا ، بعد أن كسدت هذه المهنة اتجه لصناعة الطبليات التي يأكل عليها الفلاحين ، لكن سكان القرية لن يشتروا كل يوم طبلية ، وهكذا وجد عبدالغني نفسه بلا عمل تقريبا ، كان اكثر ما يتميز به هو جرأته الشديدة على اقتحام هذا العالم و فرض وجوده على الساحة بدون أي اسلحة اللهم الا موهبته التي يباهي بها المتعلمين ، أيمانه بنفسه كان المفتاح الذي فتح له باب هذا المعترك ، مازال رمضان يشعر بالقلق من اقتحام عبد الغني لجلستنا فهو يعرفه جيدا ولابد أن يكون له هدف نهائي من ذلك ، سألته ان يقرأ علينا أخر ما كتب ، سارع عبد الغني على الفور وكأنه كان ينتظر هذه الفرصة فاخرج من حقيبته اخر دواوينه وراح يقرأ ، فغرت فاي ، أحملق فيه وقد لعبت الدهشة برأسي ، كان الكلام مبتذل وقميء للغاية لدرجة أنني لم أصدق انه منشور في كتاب يقرآه الناس لولا أني شاهدت ما يسمى بالديوان في يديه ، أحتفظت برأيي ولم أصدم الرجل لكن رمضان أطلق ضحكة صاخبة وأخذ يلسع عبد الغني بتعليقاته الساخرة ، عبد الغني لم يغضب فقد أعتاد أن يواجه ما هو اقسى من هذا بكثير ، لكنه ألقم رمضان حجرين في فمه فأخرسه ، الأول ان وزارة الثقافة قد اعطته منحة التفرغ لنشره ثلاثة دواوين ومنهم هذا الديوان البذيء الذي كان يقرأ منه من لحظات ، والحجر الثاني أن الجامعة الأمريكية أقامت له حفلة كبيرة كضيف شرف لها وكرمته تكريما خاصا بأعتباره شاعر عامية مميز!!!! نظر رمضان في ساعته متجاهلا ما قاله عبد الغني و كانه لم يسمعه ، تأكد الأخير انه نال من رمضان ولكي يكتمل أنتصاره أخبره بانه حاليا يكتب أغنيات عامية لبرنامج اطفال في الأذاعة ، قرر رمضان مغادرة المقهى فجأة ، أنتصب واقفا دون حتى ان يسألني ، كصاروخ أستعد للأنطلاق من فوره ، معتذرا لعبد الغني بحجة أن لديه موعد هام ، لحق عبد الغني بنا على ناصية الشارع وهو يقفز من فعل عاهة خلقية في قدمه ليلحقنا ، ثم عرض على رمضان شراء نسخة من ديـــــــوانه( لحم خفيف) رفض رمضان لكن بعد الحاح و رجاء من عبد الغني لأنه يريد شراء عشاء وليس معه نقود ، وافق رمضان ونفحه خمسة جنيهات ، سار معنا عبد الغني بعدها ممتنا حتى المطعم ثم صافحنا ودلف للداخل ، ، سرت مندهشا أضرب كفا بكف ، يكسو ملامحنا الشاخصة للأمام آهاب الصمت ، لكن صوتا مرتفعا في عقلي الباطن يتردد صداه في أذني أن عبد الغني وأمثاله ما هم سوى بثورا متقيحة على سطح حياتنا سرعان ما سوف تجف وتشفى ثم تنسى ولا يبقى لها أثر فهل كنت اواسي نفسي أم ان الزمان قد أختلف ، رمضان كان شاردا في الخمسة جنيهات التي احتال عليه بلدياته ليفوز بها من أجل وجبة ساخنة تدفىء جوفه الخاوي ، أخذ رمضان ينظر للديوان الذي لا يساوي ثمن ما خط به من مداد وقد أدرك سر بشاشة عبد الغني وملاقاته اياه بحفاوة ، واقباله على مجالستنا على الرغم من انه كثيرا ما رأنا ولم يكلف خاطره حتى ليلقي علينا السلام ، كان رمضان يتمتم بكلمات ساخطة ، اظنه كان يلوم نفسه ويجلدها بقسوة بعد أن رأى من امر عبدالغني ما لم يطيقه ، عبد الغني برغم انه لا شيء استطاع في وقت قصير ان يضع نفسه على الطريق ويفرض نفسه على الساحة برغم كل الصعوبات ، فماذا فعل هو منذ أن وطئت قدماه القاهرة لا شيء ، ما زال موزعا بين وظيفة مهينة وحلم يبدو بعيدا عن التحقق ، لقد اذهلنا فعلا نهر الثقة الدافق داخل جسد عبد الغني النحيل ، أنه مقاتل شرس ...ودعت رمضان وأفترقنا عند موقف الأتوبيس بميدان الفلكي حيث ركب اولا أتوبيس أمبابة ولحقته بعدها بلحظات فركبت أتوبيس الجيزة ، الأتوبيس مركبة لا تصلح للنوم رغم انه يلح في طلبي ، الأهتزازات العنيفة كألعاب الملاهي ألهمتني رغبة في القيء ولمباته المستطيلة بنورها الفاضح تخيف النوم من الأقتراب بالأضافة لأتساعه مثل صالات الأفراح ما يهتك شعوري بالخصوصية ، الناس فوق المقاعد و في الطرقة وعلى السلم ومنهم العالق بالباب ، يشكلون جميعا لوحة ضخمة ساخرة من التصاق الأجساد و أختلاط اللحم ، في أحدى الوقفات الأجبارية بمحاذاة اتوبيس سياحي فاخر أصطف السياح عبر النوافذ لتصوير هذه اللوحة القياسية وتسجيل المشهد النادر بالنسبة لهم بكاميرات الفيديو ، فهم لا يجدونه ألا في موسوعة جينيس للأرقام القياسية ، صفحة الأتوبيسات المصرية الخارقة !! أتوبيسنا يبدو كوحش أنقرض من اكلة البشر تتدلى الناس من بين انيابه ، ماموث طائش ، وقد امتلاءت معدته الشفافة وفمه المفتوح بوضوح ، الزحام الشديد أمام دار الأوبرا وشارع التحرير وشارع الدقي ثم شارع الجامعة يجبر السائق على أستخدام الفرامل كل عدة أمتار فيصدر الأتوبيس صوتا كأنه عملاقا يفسو ، كانت الساعة تشير الى الحادية عشر مساءا أستغرق المشوار للجيزة قرابة الساعة قبل ان أستقل ميكروباص أخر للبدرشين ، الميكروباص ناقلة افراد سريعة ومريحة ، لا أتخيل مصر بدون هذه السيارة ، فكيف كانت حياتنا تجري بدونها ، كأنني قد ولجت في قلب صومعة مظلمة ، تكومت خلف كرسي السائق في أنتظار اكتمال العدد ، لحقت بي الى جواري سيدة بدينة ثبتتني لصق الشرفة تماما ، المسافة طويلة الى هناك يضاعف من طولها الشعور بالنصب والصداع اللذان يطرقان رأسي طرقا ، عقلي مخفوق داخل وعاء رأسي الضيق ، يكاد يفور من حوافه الساخنة ، يعود النوم ثانية خلسة بوجه بشوش ، أغفاءات متماوجة تاتي وتروح في أنسيايبة مع هدهدة خفيفة لأختراع أسمه الميكروباص ، كأنها أرجوحة تدغدغ أعصابي القلقة ، عبد الغني البتانوني يظهر مرة أخرى على شاشة الذاكرة ، كيف واتته الجرأة على أن يصور هذه المشاهد الجنسية الهابطة ثم يطلق عليها ديوان شعر ، دائما أشبه المثقف بالنحلة التي لابد أن ترتقي الزهور البديعة حتى تنتج عسلا حلوا ، لكن هذا الشاعر الذبابة يبدو انه لا يحط سوى فوق القاذورات والفضلات والقمامة ثم يغوط تلك الجيف التي يدعوها شعرا ، موجات النوم تتسارع تتحول لنوة عاتية تبتلعني في غيبوبة طويلة.....السائق يناديني - أصحى يا استاذ ....الأخر ، وصلنا ، رفعت رأسي المندلق فوق صدري ، ثمة ريالة لزجة كثيفة أنسالت على قميصي من فمي الموارب أثناء النوم فبللته ، هذه عادتي السيئة كلما نمت ، قيل لي أنها من فعل بكتيريا بالمعدة بسبب ( الرمرمة ) على عربات الطعام المشردة في شوارع القاهرة ، نزلت متثاقلا اجمع عظامي مرة أخرى ، أسحب ساقاي الثقيلتان الى الشوارع الجانبية لأختصر طريقي للمنزل ، أفوت وسط أطباق طينية ملاءنة بمياه الصرف ، أكياس القمامة بلون الليل متراصة على الجانبين كأصص الزرع ، تتنادى فوقها قطتين بمواء ممطوط ، أحسبه مقدمة تفاوض على دعوى صريحة لممارسة الحب ، تبرق عيونهما في الظلام الحالك كومضات الرعد ، ثمة حريق قمامة يحتضر على مقربة ، ينفث دخانه الأخير كثيفا يتسلق الهواء و تعبأ رائحته الجو ، تلوح المنازل من بين العتمة كأنها شواهد القبور ، يحوطها سياجا عالي من الصمت ، ها أنذا بلغت البيت مكدودا ، أستبق روحي نحو السرير في غمرة شوق عاصف للنوم .
الخميس، 11 يونيو 2009
نجار سواقي
حين شاهدنا عبد الغني بلديات رمضان جالسين على مقهى البستان ، أقبل علينا بحفاوة غيرمعتادة ، وبدون مقدمات سحب كرسي داعيا نفسه للجلوس معنا ، كثيرا التقيت به هنا وعرفته عن طريق رمضان لكن لم يسبق لي أن عرفت عنه أكثر من أنه يكتب الشعر العامي ، عبد الغني هجر مهنته بالقرية في المنوفية وحمل أغراضه القليلة للقاهرة طامحا في ان يصبح واحد من شعراء العامية المعروفين في البلد ، يرى ان لديه موهبة لنظم الشعر العامي ينبغي الا تدفن في القرية بين السراق والفارة والمسامير ، كان يعمل في القرية نجار متخصص في صناعة السواقي و الطنابيرمع والده ، مهنة ورثتها الأسرة ابا عن جد ، لكن مع التطور التكنولوجي و انتشار ماكينة المياه ، أخذت المهنة في الأندثار و لم يعد احد يستخدم هذه الأدوات البدائية فضلا عن تآكل الرقعة الزارعية في القرية أمام زحف الخرسانة و عدم أقبال الفلاحين على حرفة الزراعة ، كذلك قلة المياه جعلت هذه الأدوات غير فعالة في الري فالمياه اصبحت عزيزة تحتاج الى ادوات ترفعها من العمق ، هكذا كان يبرر عبد الغني البتانوني لنا هجرته من القرية للقاهرة ، عبدالغني ليس معه اي مؤهل دراسي لكن ما اهمية الدراسة اذا كانت الموهبة موجودة طبقا لوجهة نظره فكم من متعلم لكن ليس لديه نفس الموهبة و لا يمكنه كتابة بيت شعر واحد ، و أسترسل عبدالغني في حديثه قائلا ، بعد أن كسدت هذه المهنة اتجه لصناعة الطبليات التي يأكل عليها الفلاحين ، لكن سكان القرية لن يشتروا كل يوم طبلية ، وهكذا وجد عبدالغني نفسه بلا عمل تقريبا ، كان اكثر ما يتميز به هو جرأته الشديدة على اقتحام هذا العالم و فرض وجوده على الساحة بدون أي اسلحة اللهم الا موهبته التي يباهي بها المتعلمين ، أيمانه بنفسه كان المفتاح الذي فتح له باب هذا المعترك ، مازال رمضان يشعر بالقلق من اقتحام عبد الغني لجلستنا فهو يعرفه جيدا ولابد أن يكون له هدف نهائي من ذلك ، سألته ان يقرأ علينا أخر ما كتب ، سارع عبد الغني على الفور وكأنه كان ينتظر هذه الفرصة فاخرج من حقيبته اخر دواوينه وراح يقرأ ، فغرت فاي ، أحملق فيه وقد لعبت الدهشة برأسي ، كان الكلام مبتذل وقميء للغاية لدرجة أنني لم أصدق انه منشور في كتاب يقرآه الناس لولا أني شاهدت ما يسمى بالديوان في يديه ، أحتفظت برأيي ولم أصدم الرجل لكن رمضان أطلق ضحكة صاخبة وأخذ يلسع عبد الغني بتعليقاته الساخرة ، عبد الغني لم يغضب فقد أعتاد أن يواجه ما هو اقسى من هذا بكثير ، لكنه ألقم رمضان حجرين في فمه فأخرسه ، الأول ان وزارة الثقافة قد اعطته منحة التفرغ لنشره ثلاثة دواوين ومنهم هذا الديوان البذيء الذي كان يقرأ منه من لحظات ، والحجر الثاني أن الجامعة الأمريكية أقامت له حفلة كبيرة كضيف شرف لها وكرمته تكريما خاصا بأعتباره شاعر عامية مميز!!!! نظر رمضان في ساعته متجاهلا ما قاله عبد الغني و كانه لم يسمعه ، تأكد الأخير انه نال من رمضان ولكي يكتمل أنتصاره أخبره بانه حاليا يكتب أغنيات عامية لبرنامج اطفال في الأذاعة ، قرر رمضان مغادرة المقهى فجأة ، أنتصب واقفا دون حتى ان يسألني ، كصاروخ أستعد للأنطلاق من فوره ، معتذرا لعبد الغني بحجة أن لديه موعد هام ، لحق عبد الغني بنا على ناصية الشارع وهو يقفز من فعل عاهة خلقية في قدمه ليلحقنا ، ثم عرض على رمضان شراء نسخة من ديـــــــوانه( لحم خفيف) رفض رمضان لكن بعد الحاح و رجاء من عبد الغني لأنه يريد شراء عشاء وليس معه نقود ، وافق رمضان ونفحه خمسة جنيهات ، سار معنا عبد الغني بعدها ممتنا حتى المطعم ثم صافحنا ودلف للداخل ، ، سرت مندهشا أضرب كفا بكف ، يكسو ملامحنا الشاخصة للأمام آهاب الصمت ، لكن صوتا مرتفعا في عقلي الباطن يتردد صداه في أذني أن عبد الغني وأمثاله ما هم سوى بثورا متقيحة على سطح حياتنا سرعان ما سوف تجف وتشفى ثم تنسى ولا يبقى لها أثر فهل كنت اواسي نفسي أم ان الزمان قد أختلف ، رمضان كان شاردا في الخمسة جنيهات التي احتال عليه بلدياته ليفوز بها من أجل وجبة ساخنة تدفىء جوفه الخاوي ، أخذ رمضان ينظر للديوان الذي لا يساوي ثمن ما خط به من مداد وقد أدرك سر بشاشة عبد الغني وملاقاته اياه بحفاوة ، واقباله على مجالستنا على الرغم من انه كثيرا ما رأنا ولم يكلف خاطره حتى ليلقي علينا السلام ، كان رمضان يتمتم بكلمات ساخطة ، اظنه كان يلوم نفسه ويجلدها بقسوة بعد أن رأى من امر عبدالغني ما لم يطيقه ، عبد الغني برغم انه لا شيء استطاع في وقت قصير ان يضع نفسه على الطريق ويفرض نفسه على الساحة برغم كل الصعوبات ، فماذا فعل هو منذ أن وطئت قدماه القاهرة لا شيء ، ما زال موزعا بين وظيفة مهينة وحلم يبدو بعيدا عن التحقق ، لقد اذهلنا فعلا نهر الثقة الدافق داخل جسد عبد الغني النحيل ، أنه مقاتل شرس ...ودعت رمضان وأفترقنا عند موقف الأتوبيس بميدان الفلكي حيث ركب اولا أتوبيس أمبابة ولحقته بعدها بلحظات فركبت أتوبيس الجيزة ، الأتوبيس مركبة لا تصلح للنوم رغم انه يلح في طلبي ، الأهتزازات العنيفة كألعاب الملاهي ألهمتني رغبة في القيء ولمباته المستطيلة بنورها الفاضح تخيف النوم من الأقتراب بالأضافة لأتساعه مثل صالات الأفراح ما يهتك شعوري بالخصوصية ، الناس فوق المقاعد و في الطرقة وعلى السلم ومنهم العالق بالباب ، يشكلون جميعا لوحة ضخمة ساخرة من التصاق الأجساد و أختلاط اللحم ، في أحدى الوقفات الأجبارية بمحاذاة اتوبيس سياحي فاخر أصطف السياح عبر النوافذ لتصوير هذه اللوحة القياسية وتسجيل المشهد النادر بالنسبة لهم بكاميرات الفيديو ، فهم لا يجدونه ألا في موسوعة جينيس للأرقام القياسية ، صفحة الأتوبيسات المصرية الخارقة !! أتوبيسنا يبدو كوحش أنقرض من اكلة البشر تتدلى الناس من بين انيابه ، ماموث طائش ، وقد امتلاءت معدته الشفافة وفمه المفتوح بوضوح ، الزحام الشديد أمام دار الأوبرا وشارع التحرير وشارع الدقي ثم شارع الجامعة يجبر السائق على أستخدام الفرامل كل عدة أمتار فيصدر الأتوبيس صوتا كأنه عملاقا يفسو ، كانت الساعة تشير الى الحادية عشر مساءا أستغرق المشوار للجيزة قرابة الساعة قبل ان أستقل ميكروباص أخر للبدرشين ، الميكروباص ناقلة افراد سريعة ومريحة ، لا أتخيل مصر بدون هذه السيارة ، فكيف كانت حياتنا تجري بدونها ، كأنني قد ولجت في قلب صومعة مظلمة ، تكومت خلف كرسي السائق في أنتظار اكتمال العدد ، لحقت بي الى جواري سيدة بدينة ثبتتني لصق الشرفة تماما ، المسافة طويلة الى هناك يضاعف من طولها الشعور بالنصب والصداع اللذان يطرقان رأسي طرقا ، عقلي مخفوق داخل وعاء رأسي الضيق ، يكاد يفور من حوافه الساخنة ، يعود النوم ثانية خلسة بوجه بشوش ، أغفاءات متماوجة تاتي وتروح في أنسيايبة مع هدهدة خفيفة لأختراع أسمه الميكروباص ، كأنها أرجوحة تدغدغ أعصابي القلقة ، عبد الغني البتانوني يظهر مرة أخرى على شاشة الذاكرة ، كيف واتته الجرأة على أن يصور هذه المشاهد الجنسية الهابطة ثم يطلق عليها ديوان شعر ، دائما أشبه المثقف بالنحلة التي لابد أن ترتقي الزهور البديعة حتى تنتج عسلا حلوا ، لكن هذا الشاعر الذبابة يبدو انه لا يحط سوى فوق القاذورات والفضلات والقمامة ثم يغوط تلك الجيف التي يدعوها شعرا ، موجات النوم تتسارع تتحول لنوة عاتية تبتلعني في غيبوبة طويلة.....السائق يناديني - أصحى يا استاذ ....الأخر ، وصلنا ، رفعت رأسي المندلق فوق صدري ، ثمة ريالة لزجة كثيفة أنسالت على قميصي من فمي الموارب أثناء النوم فبللته ، هذه عادتي السيئة كلما نمت ، قيل لي أنها من فعل بكتيريا بالمعدة بسبب ( الرمرمة ) على عربات الطعام المشردة في شوارع القاهرة ، نزلت متثاقلا اجمع عظامي مرة أخرى ، أسحب ساقاي الثقيلتان الى الشوارع الجانبية لأختصر طريقي للمنزل ، أفوت وسط أطباق طينية ملاءنة بمياه الصرف ، أكياس القمامة بلون الليل متراصة على الجانبين كأصص الزرع ، تتنادى فوقها قطتين بمواء ممطوط ، أحسبه مقدمة تفاوض على دعوى صريحة لممارسة الحب ، تبرق عيونهما في الظلام الحالك كومضات الرعد ، ثمة حريق قمامة يحتضر على مقربة ، ينفث دخانه الأخير كثيفا يتسلق الهواء و تعبأ رائحته الجو ، تلوح المنازل من بين العتمة كأنها شواهد القبور ، يحوطها سياجا عالي من الصمت ، ها أنذا بلغت البيت مكدودا ، أستبق روحي نحو السرير في غمرة شوق عاصف للنوم .
دار المسنين
بينما أنا جالس أمام المهندس جودت ليوقع بعض المستندات ، وبينما هو يفحصها بدقة ويناقشني فيها دق الهاتف ، توقف جودت عن الأستجواب ليرد كان المتصل والده ، بدا الرجل مضطربا جدا ومحرجا فصوت الأب كان عاليا وحادا و كلماته كانت قاسية ، حتى اني سمعت دون أرادة مني و منه فحوى المكالمة ، كان الأب في حالة نفسية سيئة وثائرا جدا على ابنه يتهمه بالجحود والعقوق وأهماله بعد ان وضعه في دار للمسنين ، سيل من الشتائم يهوي فوق رأسه بينما لسانه لا يردد ويكرر سوى كلمة حاضر يا بابا ، حاضر يا بابا ، أمتعق وجهه خجلا ، حاول جودت ان يحول بين الصوت وبين سماعي له لكن دون جدوى ، أنتهت المكالمة فجأة كان واضحا ان الرجل أغلق الخط في وجهه ، أستدعى جودت عبد الله العتر كبير السعاة وراح يصب عليه جام غضبه ، (ما روحتش ليه يا حيوان تحمي بابا) ، وقف عبد الله يسوق أعذارا تافهة في بلادة شديدة ، الواضح أنه يتهرب من هذه المهمة ، عبد الله رجل مادي جدا ويحب ان يقبض مقدما قبل القيام بأي عمل كما أنه شديد الكسل يتقن اصطناع الغباء و التخابث و أختلاق الحجج ، جودت كان يقطر على عبد الله ورفاقة وكثيرا من السعاة والسائقين و والخدم ، دائما يماطل في دفع مقابل هذه المهام الخاصة الخارجة عن نطاق الوظيفة بل في كثيرا من الأحيان لا يدفعها ويعتبرها جزءا من الوظيفة ، ومن ناحية أخرى يعرف أنها مهمة شاقة لأن والده عصبي و لا يكف عن سب العتر حتى يتنهي من حمامه ، والأب يشتم و يسب عبد الله في اريحية تامة لأنه يظن أن ابنه يدفع مقابل ذلك ، شخصية الأب العنيفة جدا هى سبب كل مشكلات جودت وهى سبب وضعه في هذه الدار ، فالأب قبل أن يذهب للدار كان يتشاجر يوميا مع نجوى ، أبوه يصرخ في وجهها وهى تصرخ في وجه جودت و جودت حائرا بينهما لا يدري ماذا يفعل ، حتى قرر الرجل ان يرحل من بيت ابنه ويذهب للدار ، وكان هذا من أسباب غضب جودت من زوجته واتهامه لها بالفشل في احتواء الرجل المسن ، الأب رجل عسكري يشعر بكبرياء و عظمة ويعتز بنفسه جدا ولا يقبل أن يكون مجرد كيان مهمل ، ينزوي وحيدا في ركن من المنزل يوضع له الطعام والشراب كجرو صغير لا يكلمه أحد ولا يجالسه احد ، طرد جودت عبد الله من المكتب بعد جدل عقيم واستأنف عمله معي بعد ان خلع عنه رداء العصبية وحاول ان يستعيد تركيزه ، في أخر اليوم استدعى جودت عبدالله مرة أخرى ثم تحدث له برفق ولين و أحترام وهو يستأذنه أن يمر على والده في الدار ليقضي له طلباته وان لا يغضبه و يتحمل عصبيته ثم اخرج من جيبه مبلغا من المال ليشتري للوالد بعض البقالة والعصائر والفاكهة يضعها بالثلاجة هناك ، وقف عبدالله يمرر يده على صلعته الكبيرة و هو يبتسم ابتسامة غبية جدا ، سأله جودت اذا كان يريد شيئا ، ألمح له عبد الله بالمواصلات ، تظاهر جودت بأنه نسي واعتذر لعبدالله بذوق شديد ثم أخرج من جيبه ورقة فئة عشرة جنيهات ، قبل أن يخرج عبد الله أخبره جودت أن يمر على المنزل لأن مدام نجوى اعدت له حقيبة من ملابس جودت وأحذيته التي لا يرتديها ، أنطلق عبد الله لمنزل المهندس جودت القريب من الشركة أولا ، التقط الحقيبة من الخادمة ليضمن حقه وسارع للذهاب لوالد المهندس جودت ، عبدالله وشقيقه أبو أحمد هما كائنات طفيلية علقت بحياة جودت و ألتصقت بها ليعملوا في خدمته داخل وخارج الشركة هو وأسرته وامه وأبيه ، لكن العلاقة بينهم كانت غريبة جدا فهم لم يحبوا جودت على الأطلاق وهو كذلك لا يحبهم ، غير ان كلاهما لا يستغنى عن الأخر ، أبو احمد ليس لديه عمل محدد ، عمل في الأمن بعض الوقت ثم أرسله جودت لعزبته في قليوب ليتابع الأرض ، كل حواراته مع جودت من منطلق انه يخاف على مصلحته وأن جودت يفرط في مصلحته ويتساهل كثيرا مع المستأجرين!!!
الوافد الجديد
فرغ جودت من جولة الصباح الرياضية في شوارع الزمالك التي كان عاشقا لها وللأقامة فيها ، كان فخورا انه من سكانها ويرى ان في ذلك رمزا للعز وتكريسا لشعوره الطبقى بالتميز والسمو ، حتى شركته الصغيرة كانت في شارع اسماعيل محمد بالزمالك ، و شركته الكبيرة تلك في شارع عزيز اباظة بالزمالك ايضا ، لا يحب الخروج منها كثيرا الا الساعات التي يجلس فيها بمركب القراصنة بالجيزة ثم يعود للزمالك ، صعد لشقته بعد جولة حول حديقة الأسماك القريبة من منزله، كانت الساعة الثامنة والنصف صباحا عندما دق هاتفه المحمول ، فزع جودت فالمتصل هو الدكتور اسماعيل شامل ، رد بنبرة متذللة (أيوة يا أفندم) رد الدكتور بكلمات مقتضبة وامره بالحضور له في الساعة الحادية عشر ثم أغلق الخط ، بدا القلق مسيطرا عليه لماذا يريده الرجل ، كثيرا ما ذهب بناءا على طلبه وجلس في انتظاره لساعات ثم يخرج مدير مكتبه ليقول له الدكتور لن يقابلك اليوم فالتأتي غدا ، كلما اتصل به الدكتور يظل يضرب اخماس في اسداس حتى تنتهي المقابلة ويعرف سببها أستعد جودت للميعاد ثم توجه لمكتب الدكتور متوجسا ، جلس عدة دقائق قبل أن يؤذن له بالدخول ، كان الدكتور يطالع بعض اللأوراق امامه ، لم يلتف الى جودت أو يرد عليه حين ألقى السلام، ظل جودت واقفا في شبه أنحناءة ، ثم طلب منه الجلوس وهو ما زال يقرأ الأوراق ، بقي الصمت حاكما للمكان قبل ان يغلق الدكتور الأوراق امامه و يعتدل في جلسته على الكرسي الوثير الضخم متراجعا للخلف ، يشعل سيجارا كبيرا ، وهو يخاطب جودت بهدوء متسائلا عن أخبار الشركة ، ويجيب جودت بكلمات قليلة و صوت مرتجف ، يلقي الدكتوراليه بملف يحوي أوراق شخص ما وهو يطلب منه أن يضيف هذا الشخص الى المساهمين بالشركة بنسبة معينة ، يبدي جودت دهشته بأدب شديد ويسال الدكتور هل سدد الرجل حصته ، أخبره الدكتور انه تلقى حصته نقدا وانه باع جزء من حصته لهذا الشخص مقابل مليون جنيه ، ثم قام الدكتور واقفا في اشارة لأنهاء المقابلة ، نهض جودت بسرعة ومد يده منحنيا ليصافح الدكتور ثم اخذ الأوراق لكنه قبل ان يخرج أخبره الدكتور ان المساهم الجديد مهندس سوف يعمل بالشركة بمرتب بالأضافة لمساهمته وعليه ان يضعه في مكانة ملائمة ، خرج جودت ترجرجه الحيرة وينغصه القلق فما سبب هذه الخطوة وهل وصل للدكتور اي شيء سيء عن جودت ، هل الدكتور يحاول ان يوجد بديلا له ليتخلص منه ، أسئلة كثيرة تنهش في عقله بشراهة ، فهو يعلم ان الدكتور مزاجي و متقلب ومثله من الممكن أن يفعل اي شيء في اي وقت مع اي أنسان مهما كان ، اتصل جودت بمنصور جريشة و طلب منه مقابلته فورا ، أتفق الأثنين على اللقاء في منزل منصور على الغداء ، وحول سفرة عامرة بالأطباق التي يحبها جودت وعلى رأسها كشك الألماظية وصينية القرع العسلي وقفت زوجة منصور ترتب الطعام بينما جلس الأثنين على مقربة منها يتهامسا ، كان منصور يحاول أن يطمئن صديقه ويدعوه لعدم الأستعجال في تخمين مغزى هذه الخطوة وأنها ليست بالضرورة موجهة ضده ، قطعت الزوجة كلامهما ليتناولا الطعام ، جلس جودت شاردا رغم أن طعامه المفضل يناديه برائحة شهية لا تخطئها حواسه ، غير أن خاطره ملبد بمفاجئة الدكتور ، ولا سبيل الا انتظار ما سوف تكشف عنه الأيام القادمة .. حاول جودت و هو يقلب الأوراق التي اعطاها له الدكتور أن يفهم أي شيء من بين السطور ، الرجل اسمه المهندس طاهر صابر يصغر جودت بسنوات قليلة ، لكنه لم يستطيع ان يستشف أي شيء من الأوراق ، في اليوم التالي حضر المهندس طاهر صابر لمقابلة جودت واستلام عمله الجديد ، قابله جودت بحرارة شديدة وحفاوة و دار بينهما حديث ودي حرص جودت ان يبدو لطيفا ومريحا كعادته في بداية كل تعارف ، فسأله عن المكان الذي يحب ان يعمل به ، هرب طاهر من السؤال ولم يحدد شيئا ، كان كثيرا ما يستخدم مصطلحات انجليزية ويحاول الحديث عن امور بعيدة عن العمل ، انتهت المقابلة دون ان يعرف جودت اي شيء غير انه عرف طاهر على المكان في جولة سريعة وعلى الموظفين في كل أدارة ثم ارشده لمكتبه ، طلب طاهر مهلة للتعرف على الشركة جيدا ، في اليوم التالي احضر معه حقائب كثيرة مملوءة بالكتب في مجالات مختلفة زين بها مكتبه ، ثم بدأ يمارس مهام عمله فاخذ يطلب بيانات و معلومات من الأدارات المختلفة ، ظل جودت يتابعه من بعيد و أعطى تعليمات بأن تجاب كل طلباته وأن يأخذ كل ما يحتاج ، بعد عدة أيام بدأ أمر طاهر ينكشف شيئا فشيء من خلال أسئلته وتعليقاته على الأوراق والبيانات التي طلبها ومناقشته لها مع المهندس جودت و خاصة ما يتعلق منها بتخصصه و عمله كمهندس ، جودت كان رجل محظوظ لدرجة ان الحظ يلاحقه في كل شيء ، حتى في الموظفين الذين يعملوا عنده و حتى الشركاء ، الدنيا كانت لا تزال مقبلة عليه بكل بهاءها و كلما سارت الأمور على هذا النحو كلما أزداد هو جبروت و غرور ، تبين له أن طاهر هذا ابيض تماما في كل شيء ، لا يعرف شيئا عن الادارة ولا عن الشركات وأخر شيء يمكن ان يفهم فيه المهندس طاهر هى الهندسة ، أقصى ما يعرفه بضعة مصطلحات أنجليزية جوفاء ، يمكن ان تتحدث معه في موضوع لتجده شرد بعد لحظات وذهب بعيدا جدا ولا يعود الا عندما تشرف على الأنتهاء من الكلام ليطلب منك الأعادة مرة ثانية ، أسئلة طاهر ومناقشاته و أستفساراته التي كان يحشدها لجودت أظهرت ان الرجل هو اي شيء اخر غير ان يكون مهندسا ، طاهر صابر والده مستشار كبير بالقضاء وشخصية مرموقة في المجتمع تجمعه صداقة بالدكتور اسماعيل شامل ليس له اولاد سوى طاهر الذي أحتار فيه ، طاهر لم يصلح في أي عمل تم الحاقه به ، فهو انسان مرفه جدا يعتمد على غنى والده وثروته ، يذهب للعمل كل يوم بعد الظهر لأنه يسهر حتى الفجر في الملاهي والكازينوهات يحتسي الخمر والسجائر الملغمة بالحشيش من اجود الأنواع ورغم انه متزوج وله اولاد ، غير أن له العديد من العلاقات النسائية مع رواد هذه الأماكن واللأئي كن يجدن فيه صيدا ثمينا ، معلوماته ضحلة جدا وخبرته صفر كبير ، لم يحاول أن يتعلم أو يكتسب اي مهارة ، تعب الوالد كثيرا من أبنه فكل شركة يعينه بها يتم الأستغناء عن خدماته قبل ان يكمل فيها شهرا ، تأكد الرجل بخبرته أن أبنه لن يصلح موظفا في أي مكان بسبب سلوكياته الغير محسوبة ، كذلك لا يستطيع ان يؤسس له مشروع خاص لأن شخصيته لن تصلح أيضا في ذلك وسوف تكون النتيجة المتوقعة ضياع المال هباءا ، كان الحل أن يستفيد الرجل من علاقاته برجال الأعمال الناجحين في ان يدخل ابنه شريك مع أحدهم ، حتى يعمل في الشركة بصفته مساهم و موظف في نفس الوقت اي يعمل (بفلوسه) ، فطلب الرجل من الدكتور اسماعيل شامل أن يقبل ابنه طاهر شريكا بأحدى شركاته و أن يعلمه أصول البزنس ، الرجل في قرارة نفسه كان يشعر بالحسرة ويعلم ان ابنه لن يستمر ولن يصلح ، في كل مرة يعده طاهر بانه سوف يكون عند حسن ظنه ولن يخيب امله فيه لكنه لا يستطيع ان يلتزم أكثر من عدة أيام ثم ينهار امام أحتياجاته المزاجية و يستسلم لهذه الرغبات فيضحي بكل شيء ، أستغل جودت الوافد الجديد الذي قدمه له الدكتور على طبق من فضة ، فقرر أغراقه في مسئولية العمل لتركيعه و السيطرة عليه لأنه من المؤكد سوف يخفق و تهرب الأمور من بين يديه لعدم الخبرة و حين يرسب كما هو متوقع يكون ضعيفا امام جودت يحركه على هواه ، لقد قضت المكيفات على عقل طاهر تماما فلا يفيق الا من أجل ان يعود لغيبوبته مرة ثانية ، كثيرا ما كان يغلق عليه مكتبه من الداخل ويغط في نوم عميق ، و أكتشف الجميع ذلك حين طرق عليه طلعت الساعي الباب ومعه القهوة فلم يرد ، ظن طلعت انه اغمى عليه فكسر الباب بعد تجمع الموظفين امام المكتب ليكتشف انه راح في اغفاءة طويلة وبعيدة وقد افترش المكتب متوسدا يده كشحاذ معدم !! حاول طاهر التقرب لشلة الانس لكنه وجد نفسه سوف يكون (بهلول) السهرة ، كان يذهب كل ليلة لمركب القراصنة فتتساقط عليه التعليقات الساخرة من كل فم ولا يستطيع الرد سوى بأبتسامته البلهاء ، جودت لم يكن يسخر منه مثلهم لكنه كان يحب مشاهدة طاهر وهو يبدو كجرذ محاصر تتداعى عليه اظفارهم الشبقة لفريسة يتقاذفوا اشلائها الممزقة فيما بينهم قبل ألتهامها وقد سال لعابهم على لون دمائها القاني ، ولم تفلح محاولاته لان يكون واحد منهم فلم يتعاملوا معه معاملة الند ابدا حتى هجر هذه الأجتماعات ، أشتهر المهندس طاهر في كل الشركة بانه رجل بركة وليس له دور أو سلطات أو مسئوليات ، لكن له احترامه بأعتباره مساهم و صاحب ملك يعمل بفلوسه ، تحول لعجينة مرنة في يد جودت ، ووضع نفسه تحت تصرفه حتى يستمر في الشركة اطول وقت ممكن ، كان دوره ينحصر في التوقيع على كل شيء وأي شيء يأمره جودت بالتوقيع عليه بدون أعتراض ، كل ما يهمه ان يحصل على مرتبه لينفقه في ايام قليلة ، ويوم سافر جودت لبطولة فروسية بصحبة ابنه ، أخذ طاهر فرصة ذهبية لتحمل المسئولية والأدارة ، لكنه اضاع الفرصة دون اكتراث ، فقد أستدعاه الدكتور اسماعيل ليعطيه شيك تمويل للشركة لحين عودة جودت ، فوجيء الدكتور ان طاهر انزعج جدا ورفض ان يأخذ الدفعة ، استاذن الدكتور ان يعطي الشيك لعارف فهيم المدير المالي بدلا منه ، استمر طاهر على هذا الوضع حتى تحول تدريجيا الى مجرد شيء في الشركة ليس له وجود أو معنى وبدأ يغيب عن العمل ايام كثيرة ، ثم ياخذ عهدة مبالغ صغيرة لينجز بها بعض الأعمال المحددة ، فيكتشف جودت انه صرف النقود ولم ينفذ ما طلب منه ، دب بينهما خلاف كبير حين طلب طاهر سلفة شخصية كبيرة تخصم من المرتب لشراء سيارة ، رفض جودت نهائيا ، وطالبه يسدد أولا الأموال التي حصل عليها وصرفها ، تهور طاهر عليه و كاد ان يشتبك معه في مكتبه لولا تدخل الموظفين لكنه تطاول عليه بالسباب وقبل ان يهم جودت أن يضربه ، دخل منصور جريشة الذي كان مارا بالصدفة أثناء المشاجرة و تمكن من السيطرة عليه ثم أغلق المكتب على ثلاثتهم ، حينئذ تحدث جودت اليه وواجهه بحقيقته المرة وكيف أنه لا يصلح لأي شيء ، وأنه عالة على الشركة ولا يفيدها بما يحصل عليه من مرتب ، كانت جلسة قاتلة بالنسبة لطاهر تعرى فيها أمام نفسه بصورة جعلته يغادر الشركة بعدها متوجها لمكتب الدكتور اسماعيل شامل ، وفور وصوله زعق جرس الهاتف بمكتب المهندس جودت ، كان مدير مكتب الدكتور يخبره بحضور طاهر يطلب مقابلة الدكتور ، شكره جودت بكبرياء فقد كان الرجل يحصل على مرتب شهري كبير من أجل هذه المهمة فقط ، اخبار جودت عن كل من يأتي من الشركة يطلب مقابلة الدكتور ، طلب طاهر مقابلة الدكتور وبعد أن دخل لم يعرف ماذا يقول كان مرتبكا و غاضبا ، لاحظ الدكتورأنه مشوش ومهزوز ولم يفهم منه شيئا فنصحه ان يعود لبيته يستريح ويأتي له في وقت أخر ، لم يقبل طاهر ان يخرج خالي الوفاض ، جمع شتات أعصابه المبعثرة وهو يتهم جودت بالسرقة ، قال للدكتور ان جودت رجل حرامي يسرقه مستخدما في ذلك مقاولين أصدقاء له وانه اقترح عليه تغيير هؤلاء فرفض وانه مستبد في أدارة الشركة ولا يريد أن يشترك معه احد في ذلك ، طاهر كان يتحدث بدون تفكير ، كان يقول ما يتبادر لذهنه لحظيا كالأطفال فهو يردد كلاما مرسلا سمعه من اشخاص كثيرين في الشركة بدون أثبات يهمس به البعض هنا وهناك ، زاد من ارتباكه حين سأله الدكتور عن الدليل على ذلك ، لم يجد طاهر ما يقوله سوى ان الشركة كلها تعلم ذلك ، ساعتها بدا وكأنه جسم زجاجي هش سقط على ارض رخامية هشمته الى فتات صغيرة ، تفوح رائحة الصمت في الغرفة ، طاهر يقف كطفل باكي جاء يشكو طفلا أكبر منه سلبه لعبته بعد أن أوسعه ضربا ، هكذا كان يراه الدكتور اسماعيل وهو يحملق فيه بهدوء ، نظرات الدكتور الغائرة وتعليقاته الرصينة المحيطة بالموقف تدل على ان الرجل قد فقد الأحساس بالدهشة ، فالموقف متكرر في كل شركاته ، لم يخيب طاهر من جديد أمل ابوه فيه لكنه أيضا أراق امال كثير من موظفي الشركة الذين راهنوا عليه ووضعوه في مقارنة ظالمة بينه وبين جودت ، فكيف يقارن طائر نورس كسيح ومهيض الجناح بصقر مشرعة اجنحته في السماء ، كنت واحدا من الذين راهنوا على طاهر واملوا في أن يغير هذه الشركة ، ترى هل كنت أأمل فعلا في التغيير أم كنت أمل في ان ينتصر طاهر لأنه سهل الأنقياد ويمكن أن يكون دمية والعوبة سهلة في أيدينا نحن صغار الموظفين لنحقق مكاسبنا الشخصية ، اما جودت فلا امل لنا فيه ، فهو الذي يتلاعب بنا دوما ، كان يناديني دائما( أبو الرشد)، و يمنحنا كثير من النقود أنا وفؤاد على سبيل الهبة التي لا ترد بمجرد ان نسوق له أي حجة واهية ، جاء والده للدكتور اسماعيل ينوء ظهره الوهن بخيبة ابنه الثقيلة ، يعتذر للدكتور عن أفعال ابنه وتصرفاته في خجل لكن الدكتور يربت على كتفه في أخوية ملفقا للموقف ابتسامة خاطفة ، تخفف عن الرجل معاناته وصدمته, الدكتور أسماعيل ليس من عادته الشعور بالرثاء لأحد ، لكنه شعر بالشفقة من أجل والد طاهر ، شعر بحسرة الرجل بشعور الأب حين تفسد ثمرة عمره ، ثم أخذ الرجل نقوده ورحل ليكرر التجربة في شركات أخرى ، مع اناس اخرين غير يائس وطاهر أيضا لا ييأس من أن يفعل الشيء نفسه كل مرة . ، رغم أرتيابه في طاهر استدعى الدكتور المهندس جودت ليواجهه بما حدث ويستوضح منه الأمر ، وأستطاع جودت أن يدحض كل أتهامات طاهر ويؤكد صورته الحقيقية امام الدكتور ، كانت هذه هى المرة الأولى التي يحاول فيها أحد تشويه صورة جودت أمام الدكتور ، لكنها بالتأكيد لم تكن الأخيرة .
أنثى
حضرت في يوم عملها الأول ترفل في رداء خلاب ، والدها يعرف شقيق عارف فهيم فتوسط لها عنده لتعمل ، حسناء انسانة وديعة ورقيقة وخجولة جدا طيبة القلب ومسالمة ، رأيت في وجودها انيسا من وحشة هذا المكان وسلوى لشعوري بالأغتراب وسط هذه الرفقة وعلى رأسهم الأستاذ عارف ، لم يكن قد مضى على تعييني أسبوع ، كرهت خلاله المكان برمته و أعتراني أكتئاب شديد ، شعر كلانا بالأرتياح للأخر ، حسناء ايضا كانت في حاجة لمن يؤلفها على المكان ، وجد كل منا حاجته النفسية لدى الثاني ، كنا كالأفراخ التي خرجت للتو الى الدنيا الكبيرة تشعر ببرودة الحياة الواسعة ، مازالت أقدمنا لا تقوى على حمل اجسانا الرقيقة ، يعجز الزغب الأصفر أن يحمي هذه الأجسام الضعيفة فلا نجد بدا من أن يذوب كلانا في رفيقه ليستدفء به و يصطلي بانفاسه الساخنة ، حسناء حلوة المعشر لها ضحكة عفوية قوية و بريئة ، أننا نعرف بعضنا البعض من زمن بعيد جدا ، هكذا كان ثمة شعور طاغي يغلفنا ، تمت خطبتها قبل ان تتسلم العمل بأيام ولولا ذلك لأخذت علاقتنا منحنى اخر ، شكلنا معا فريقا منسجما جدا في العمل ، أصبحت النظرات هى لغة الحوار والتفاهم بيننا فمجرد تبادل النظرات في موقف ما يعرف كل منا ما عليه فعله ، هذا التقارب كان مصدر أزعاج شديد لعارف فيهم ، فهو أيضا لم يحب حسناء لأنها كانت تشعره بنفورها المستديم من اسلوبه في التعامل معها ، بل كانت تتحول لقطة شرسة تهاجمه حين يقسو عليها ، هى أنثى بكل ما تحمله الكلمة من معنى ، يسعدها أن تنقاد للرجل و تمتثل لطاعته في غير معارضة ، تحب ان تركن لمن سكنت جوارحها اليه و تعود له في كل الأمور بغير حرج ، انفها المنمنم يرسل زخات باردة من عبير انفاسها الطيب الرطب ، أشعر بها كلما أقتربت مني كظل شجرة وارفة الأغصان لتناصحني وتهمس الي بكلماتها المهمومة بخلافاتي المستمرة مع عارف فهيم ، كانت تخاف علي من هذا الرجل خوف الأم على رضيعها ، أذكر يوم أن جلسنا متقابلين بمكتب المهندس جودت حين كان يراجع معها حسابات البنوك ويراجع معي حسابه الشخصي ، بينما يتفحص الأوراق والأرقام كنت مشغولا عن الوجود اطارد غمازتين يظهرا ويختفيا على وجنتيها كلما سكنت ملامحها البريئة أو أبتسمت ، غاصت عيناي بين ثنايا وجهها العربي بلونه القمحي و تفاصيله المصرية الخاصة ، سبحت نظراتي على صفحة هذا الوجه الرائق ، سرى في جسدي خدر من نوع لم أعهده من قبل ، حين رفع المهندس جودت رأسه فجأة فوجدني مسبلا وغارقا في هيامي زجرني قائلا :-
- أنتى يا بني مالك كده عامل زي ما تكون مش لاقي حد تحبه
- فين الحساب !
تحول وجهي لكتلة حمراء ، لصقت ابتسامة خجلة على شفتي أستر بها ما تعرى من احاسيسي المكبوتة و أنا اقلب في اوراقي التي ماعدت أري فيها سطرا ، كلماته ليس لها معنى ، وفي نفس الوقت لها معاني كثيرة ، فهل يتربص الأنسان بالحب ويترصد له ، كيف يكون ذلك حبا أذن اذا كان موجها بهذا الشكل ، أم أن الحب كالموت يأتي بغتة ، ربما لم يقصد ما قال و ربما خانه التعبير ، المهم أنه احرجني جدا ، كانت عيناها النجلاوين تفرج بين الحين والأخر عن بعض مشاعرها السجينة المكبلة بحزام العفة ، تهفو ناحيتي تحتويني ، مشاعر خرساء أشعر بها تلفني لكني ابدا غير قادر على لمسها ، دائما كانت جلستنا متقابلة حتى المكتبين في القسم كانا كذلك ، اذكر يوم أن دخل سامي الأمير القسم فوجد على مكتبها نتيجة العام ، مكتوب عليها في الجهة المقابلة لي (تهادوا تحابوا) فقال مداعبا لنا انها تضع هذه العبارة أمامي حتى اهاديها فنتحابب ، ذابت بعدها وصار وجهها الصبوح بلون الفراولة وهى تتحاشى النظر ناحيتي فتنظر عند قدمها دون أن تنطق ، مضرجة في بحيرة من الخجل ، ويوم أن أطاح بي الأستاذ عارف فهيم من الأدارة المالية بعد ان ضاق بعلاقتي بالمهندس جودت و نفاني الى مشروعات الساحل الشمالي ، كنت أهفو الى العودة الشهرية للأدارة ، أغترف بنظراتي الواثبة لقطات متنوعة من وجهها الحالم ، اختزنها في جيوب عقلي ، يتقوت عليها القلب في أوقات الأغتراب ، حين تجترها الذاكرة في مواساة وتعرضها في حفلات مسائية خاصة ، ويوم ان تزوجت فغابت في اجازة الأيام الأولى ، غابت معها كل ألوان الفرحة وبدا الكون قاتما في لون واحد ، صرت روحا حيرى هابئة تائهة قد اضناها البحث وذوبتها أشواق العودة للجسد الذي أقتلعت منه ، لتنبعث الحياة في كلايهما من جديد ، عاودني رهاب البعاد هل تعود أم أن الحلم قد أنتهى ، و في زيارة التهنئة الجماعية وجدتني دون وعي مني ، أأمر زوجها في عجرفة بسرعة عودتها للعمل ، ثم تنبهت لحماقتي فأردفت قائلا بأبتسامة مقتضبة : دي رسالة لك من الأستاذ عارف وبعد اذنك طبعا !! وعادت ولكن غير ما ذهبت ، و لا عدت انا كما كنت ، دون اتفاق منا تبدلت مشاعرنا في صمت ، فأنا في كل مكان احتاج الى أم .
بالواسطة
بعد نجاح رمضان حسونة في القيام بدوره واثبات وجوده ، عمد منصور على امداد جودت بأخرين ليعملوا معه ، كان يعتبر انه يقدم بذلك خدمات لصديقه جودت و أن له موهبة في أختيار الموظفين يوظفها لصالح صديقه ، محاولا ان يملأ الأماكن الشاغرة حول جودت باشخاص من طرفه ، وفي جلسة مسائية بالمركب (القراصنة) حضر منصور برفقته صديقه سامي الأمير وبعد التعارف وتبادل المجاملات بين جودت وسامي أخبره منصور ان سامي هو المدير الأداري الذي سبق وحدثه عنه ، سامي الأمير رجل وسيم جدا وطويل القامة يشبه في هيئته وطوله وبنيانه القوي الشخصيات العامة خاصة في زيه الرسمي ، أحتل الصلع مساحة كبيرة من رأسه ، متحدث لبق يجيد العلاقات العامة وبعد نصف ساعة بدا وكأنه يعرف جودت منذ زمن طويل ، لم يعجب خبر تعيين سامي مدير اداري الكثيرين ومنهم رمضان الذي سوف يكون تابعا له ، فلقد أقتنع جودت برأي منصور في أن الشركة تنمو وتحتاج لواجهة في التعامل مع المصالح والجهات المختلفة ، سامي كان رجل هوائي يعتمد على الشكل والمظهر الخارجي و علاقاته الكثيرة في تسويق نفسه و هذه الوظيفة نجح في الحصول عليها من خلال علاقته بمنصور بينما امكانياته الشخصية في العمل كانت متواضعة جدا ، ليس له في الحياة اي مبدأ فهو نذل حتى النخاع لا يستقر في مكان ولا يستمر في عمل ، هدفه الأول جمع المال بدون مجهود لذلك تزوج من طليقته العربية طمعا في مالها ثم تخلصت منه بعد ان أدركت نيته لكن كان هناك طفل ثم تزوج من أخرى وهكذا، حاول أن يسيطر على رمضان ويستغله لكن رمضان لفظه بعنف مما زرع بينهما حالة من الكراهية والصراع المتصاعد انتهت بأعتداء سامي على رمضان بالحذاء في احدى سهرات العمل أمام جمهرة من الموظفين والمقاولين و في حضور جودت نفسه ، أستاء جودت جدا من تصرفات سامي وبدأ يضيق به خاصة وان سامي كان كثير التمارض ودخول المستشفى واجراء العمليات مما جعله يتخلف كثيرا عن العمل ، لقد أنفق كثيرا من شبابه على ملذات الحياة وملاهيها من الخمور والمخدرات و النساء منذ ان كان بالجامعة وبدون توقف وحين بلغ الخمسين من عمره بدأ يدفع فاتورة ذلك دفعة واحدة ، تعالت الأصوات داخل الشركة معترضة على هذا الوضع فالرجل يقضي نصف الشهر بالمستشفى و كأنه أدخر كل الفحوص والعمليات حتى يعين بهذه الشركة بينما يحصل على مرتبه كاملا وفي بعض الأحيان يمكث شهرا كاملا ، صدى الأحتقان كان يصل لجودت عبر موصلات جيدة ، عارف فهيم كان حانقا على هذا الوضع فهو يقوم بكل العمل الأداري والمالي في غياب سامي بينما سامي يحصل على مرتبه كاملا وهو طريح الفراش ، قرر جودت الأستغناء عن خدماته لكن بعد تدخل منصور عدل عن ذلك بنقله للمصنع الجديد بـ6 اكتوبر كمسئول مبيعات ، خرج سامي و تسلم عمله الجديد بالمصنع و علم بما فعله وقاله عارف فهيم في غيابه وهو مريض فاصر على أن يرد له الصاع صاعين ، مضت ايام عدة ثم جاء رجل الى الشركة مبكرا جدا يطلب مقابلة المهندس جودت لم يكن احد موجود سوى عارف فهيم ، أدخلته السكرتيرة لعارف ، أقنعه الرجل انه مسئول مهم بأحد سلسلة السوبر ماركت الكبيرة بالبلد و أسمه عادل الشاعر وان المهندس جودت كان قد كلفه بأحضار نوع معين من الزبد الأمريكي المستورد لوالدته ، وأن الشحنة وصلت لتوها من الولايات المتحدة وقام الشاعر بالأحتفاظ بكمية للمهندس جودت يريد ان يسلمها له ، لكنه غير موجود بينما عادل الشاعر في عجالة من أمره ولابد من تسليمها الأن ، في البداية أشار عليه فهيم بالأتصال به من السكرتارية ، خرج الرجل امسك بالهاتف وتظاهر بالأتصال ثم عاد وقال له انه لا يرد ، و بعد حوار ودي جدا مع الأستاذ عارف تبين فيه أن الرجل على دراية جيدة بمدينة البدرشين وعائلاتها و بمجموعة شركات الدتور شامل وقدامى الموظفين بها ، شعر عارف بألفة و اطمئنان نجح الرجل ان يدخلهما عليه ، ثم أستأذن وهم بالأنصراف ، لحق به عارف فهيم عند مدخل الشركة بعد أن قرر ان يستلم العبوات مجاملة للمهندس جودت و ليكسب معرفة هذا الرجل ، فاجأه الشاعر ان العبوات ليست معه لكنها في مخزن مبرد على مقربة حتى لا تفسد ، لم يستطع الحدق التراجع فقد قرر ان يفعل ذلك وتخيل أن جودت سوف يمتن كثيرا لتصرفه هذا خاصة وانها لوالدته ، طلب عارف من أثنين من السعاة الذهاب مع الرجل لأحضار الزبدة ، ثم همس للرجل مستفسرا عن القيمة فأخبره انها ألف وخمسمائة جنيها ، عد عارف المبلغ جيدا من جيبه الخاص قبل ان يعطيه لعادل الشاعر ، كان محرك سيارة الشاعر دائرا ، علل الشاعر للسعاة ذلك بان البطارية بها مشكلة ، ظل الرجل يسير في شوارع كثيرة وجانبية يتحدث مع السعاة على انه سوف يمنحهما اكرامية كبيرة عندما يصل ، ثم طلب منهما النزول امام محل مغلق و أستأذنهما دقائق حتى يذهب يحضر المفاتيح ، نزل الأثنين ووقفا ساعة ، ساعتين ، ثلاثة ، أستبد القلق بعارف وجن جنونه ، يدخل ويخرج للمكتب في هيستيريا غريبة ، اتصل بالمهندس جودت يسأله عن أمر هذا الرجل ، كانت المفاجأة أن جودت لا يعرف شيئا عن هذا الأمر و ان والدته لا تحب الزبدة وبالذات الأمريكية لأنها شديدة الدسم!!!!!!! انهار عارف الحدق تماما و أغلق عليه مكتبه ، ابتلع الموقف حتى لا يضحك عليه الشركة ، جاء السعاة وقد انهكهما الأنتظار ، ادخلهما عارف و أغلق المكتب ليعرف منهما القصة ، نفى عارف بعد ذلك أن يكون قد دفع مقابلا للرجل حتى لا يتهم بالسذاجة التي لا تليق بمدير مالي محنك مثله، لم يكن المبلغ الذي دفعه الحدق هو الذي ألمه فقد تعرض لمثل هذه الأمور كثيرا ، لكن الموقف نفسه كان مهينا جدا له ، فمعلومات الرجل التفصيلية ودراسته الجيدة لشخصية الحدق وحسابه لردود أفعاله كانت مذهلة وكان واضحا ان أحدا قد أعطاه كل المعلومات اللازمة لأتمام المهمة بنجاح ، حار تفكيره في تحديد الفاعل الحقيقي لكن دون جدوى وبالطبع كان جودت اول المتهمين في نظره ، حاول فهيم ان يلقي باللأئمة على السكرتيرة لأنها ادخلته له ثم حاول أن يلقي بها على حسناء لأنها حضرت المقابلة في مكتبه ، كان يحاول أن يلقي بالمسئولية على شخص اخر غيره ،وفي الجلسة المسائية تحلق الخمسة الكبار مع المهندس جودت و سامي الأمير على مائدة مستديرة ووليمة كوميدية دسمة جدا يتوسطها عارف فهيم الحدق مدهونا بالزبدة الأمريكية !!!
بعد نجاح رمضان حسونة في القيام بدوره واثبات وجوده ، عمد منصور على امداد جودت بأخرين ليعملوا معه ، كان يعتبر انه يقدم بذلك خدمات لصديقه جودت و أن له موهبة في أختيار الموظفين يوظفها لصالح صديقه ، محاولا ان يملأ الأماكن الشاغرة حول جودت باشخاص من طرفه ، وفي جلسة مسائية بالمركب (القراصنة) حضر منصور برفقته صديقه سامي الأمير وبعد التعارف وتبادل المجاملات بين جودت وسامي أخبره منصور ان سامي هو المدير الأداري الذي سبق وحدثه عنه ، سامي الأمير رجل وسيم جدا وطويل القامة يشبه في هيئته وطوله وبنيانه القوي الشخصيات العامة خاصة في زيه الرسمي ، أحتل الصلع مساحة كبيرة من رأسه ، متحدث لبق يجيد العلاقات العامة وبعد نصف ساعة بدا وكأنه يعرف جودت منذ زمن طويل ، لم يعجب خبر تعيين سامي مدير اداري الكثيرين ومنهم رمضان الذي سوف يكون تابعا له ، فلقد أقتنع جودت برأي منصور في أن الشركة تنمو وتحتاج لواجهة في التعامل مع المصالح والجهات المختلفة ، سامي كان رجل هوائي يعتمد على الشكل والمظهر الخارجي و علاقاته الكثيرة في تسويق نفسه و هذه الوظيفة نجح في الحصول عليها من خلال علاقته بمنصور بينما امكانياته الشخصية في العمل كانت متواضعة جدا ، ليس له في الحياة اي مبدأ فهو نذل حتى النخاع لا يستقر في مكان ولا يستمر في عمل ، هدفه الأول جمع المال بدون مجهود لذلك تزوج من طليقته العربية طمعا في مالها ثم تخلصت منه بعد ان أدركت نيته لكن كان هناك طفل ثم تزوج من أخرى وهكذا، حاول أن يسيطر على رمضان ويستغله لكن رمضان لفظه بعنف مما زرع بينهما حالة من الكراهية والصراع المتصاعد انتهت بأعتداء سامي على رمضان بالحذاء في احدى سهرات العمل أمام جمهرة من الموظفين والمقاولين و في حضور جودت نفسه ، أستاء جودت جدا من تصرفات سامي وبدأ يضيق به خاصة وان سامي كان كثير التمارض ودخول المستشفى واجراء العمليات مما جعله يتخلف كثيرا عن العمل ، لقد أنفق كثيرا من شبابه على ملذات الحياة وملاهيها من الخمور والمخدرات و النساء منذ ان كان بالجامعة وبدون توقف وحين بلغ الخمسين من عمره بدأ يدفع فاتورة ذلك دفعة واحدة ، تعالت الأصوات داخل الشركة معترضة على هذا الوضع فالرجل يقضي نصف الشهر بالمستشفى و كأنه أدخر كل الفحوص والعمليات حتى يعين بهذه الشركة بينما يحصل على مرتبه كاملا وفي بعض الأحيان يمكث شهرا كاملا ، صدى الأحتقان كان يصل لجودت عبر موصلات جيدة ، عارف فهيم كان حانقا على هذا الوضع فهو يقوم بكل العمل الأداري والمالي في غياب سامي بينما سامي يحصل على مرتبه كاملا وهو طريح الفراش ، قرر جودت الأستغناء عن خدماته لكن بعد تدخل منصور عدل عن ذلك بنقله للمصنع الجديد بـ6 اكتوبر كمسئول مبيعات ، خرج سامي و تسلم عمله الجديد بالمصنع و علم بما فعله وقاله عارف فهيم في غيابه وهو مريض فاصر على أن يرد له الصاع صاعين ، مضت ايام عدة ثم جاء رجل الى الشركة مبكرا جدا يطلب مقابلة المهندس جودت لم يكن احد موجود سوى عارف فهيم ، أدخلته السكرتيرة لعارف ، أقنعه الرجل انه مسئول مهم بأحد سلسلة السوبر ماركت الكبيرة بالبلد و أسمه عادل الشاعر وان المهندس جودت كان قد كلفه بأحضار نوع معين من الزبد الأمريكي المستورد لوالدته ، وأن الشحنة وصلت لتوها من الولايات المتحدة وقام الشاعر بالأحتفاظ بكمية للمهندس جودت يريد ان يسلمها له ، لكنه غير موجود بينما عادل الشاعر في عجالة من أمره ولابد من تسليمها الأن ، في البداية أشار عليه فهيم بالأتصال به من السكرتارية ، خرج الرجل امسك بالهاتف وتظاهر بالأتصال ثم عاد وقال له انه لا يرد ، و بعد حوار ودي جدا مع الأستاذ عارف تبين فيه أن الرجل على دراية جيدة بمدينة البدرشين وعائلاتها و بمجموعة شركات الدتور شامل وقدامى الموظفين بها ، شعر عارف بألفة و اطمئنان نجح الرجل ان يدخلهما عليه ، ثم أستأذن وهم بالأنصراف ، لحق به عارف فهيم عند مدخل الشركة بعد أن قرر ان يستلم العبوات مجاملة للمهندس جودت و ليكسب معرفة هذا الرجل ، فاجأه الشاعر ان العبوات ليست معه لكنها في مخزن مبرد على مقربة حتى لا تفسد ، لم يستطع الحدق التراجع فقد قرر ان يفعل ذلك وتخيل أن جودت سوف يمتن كثيرا لتصرفه هذا خاصة وانها لوالدته ، طلب عارف من أثنين من السعاة الذهاب مع الرجل لأحضار الزبدة ، ثم همس للرجل مستفسرا عن القيمة فأخبره انها ألف وخمسمائة جنيها ، عد عارف المبلغ جيدا من جيبه الخاص قبل ان يعطيه لعادل الشاعر ، كان محرك سيارة الشاعر دائرا ، علل الشاعر للسعاة ذلك بان البطارية بها مشكلة ، ظل الرجل يسير في شوارع كثيرة وجانبية يتحدث مع السعاة على انه سوف يمنحهما اكرامية كبيرة عندما يصل ، ثم طلب منهما النزول امام محل مغلق و أستأذنهما دقائق حتى يذهب يحضر المفاتيح ، نزل الأثنين ووقفا ساعة ، ساعتين ، ثلاثة ، أستبد القلق بعارف وجن جنونه ، يدخل ويخرج للمكتب في هيستيريا غريبة ، اتصل بالمهندس جودت يسأله عن أمر هذا الرجل ، كانت المفاجأة أن جودت لا يعرف شيئا عن هذا الأمر و ان والدته لا تحب الزبدة وبالذات الأمريكية لأنها شديدة الدسم!!!!!!! انهار عارف الحدق تماما و أغلق عليه مكتبه ، ابتلع الموقف حتى لا يضحك عليه الشركة ، جاء السعاة وقد انهكهما الأنتظار ، ادخلهما عارف و أغلق المكتب ليعرف منهما القصة ، نفى عارف بعد ذلك أن يكون قد دفع مقابلا للرجل حتى لا يتهم بالسذاجة التي لا تليق بمدير مالي محنك مثله، لم يكن المبلغ الذي دفعه الحدق هو الذي ألمه فقد تعرض لمثل هذه الأمور كثيرا ، لكن الموقف نفسه كان مهينا جدا له ، فمعلومات الرجل التفصيلية ودراسته الجيدة لشخصية الحدق وحسابه لردود أفعاله كانت مذهلة وكان واضحا ان أحدا قد أعطاه كل المعلومات اللازمة لأتمام المهمة بنجاح ، حار تفكيره في تحديد الفاعل الحقيقي لكن دون جدوى وبالطبع كان جودت اول المتهمين في نظره ، حاول فهيم ان يلقي باللأئمة على السكرتيرة لأنها ادخلته له ثم حاول أن يلقي بها على حسناء لأنها حضرت المقابلة في مكتبه ، كان يحاول أن يلقي بالمسئولية على شخص اخر غيره ،وفي الجلسة المسائية تحلق الخمسة الكبار مع المهندس جودت و سامي الأمير على مائدة مستديرة ووليمة كوميدية دسمة جدا يتوسطها عارف فهيم الحدق مدهونا بالزبدة الأمريكية !!!
فور ان أنشأ جودت الشركة ألتفت حوله مجموعة من المقاولين الذين عملوا معه قبل ذلك وحفنة من الأصدقاء والأقارب الذين أرادوا أن يستثمروا علاقتهم به و ينتفعوا بالوضع الجديد له ، جودت كان حريصا أيضا في قرارة نفسه على وجودهم معه و تثبيتهم حوله فهو واثق أن لعابهم سال للربح العالي وبالتالي سوف يسهل عليه الضغط عليهم و تمرير مكاسب طائلة لحسابه من خلالهم لثقته فيهم و في ولائهم اليه على مبدأ ( كله يكسب ) وبدأ جودت تنفيذ مشروع جديد و ضخم لصالح مجموعة شركات الدكتور يستمر لسنوات عدة ، توطدت خلاله علاقته بهم ، فكان لابد أن يلتقيهم يوميا في أحد المراكب العائمة المملوكة للدكتور أيضا و السهر سويا حتى ساعات الصباح الأولى ، بدأ جودت يتأثر للغاية بشخصية الدكتور شامل و أسلوبه وطريقة كلامه وتفكيره فكان يحاكيه في كل شيء حتى السيجار والصحبة التي تجلس حوله يوميا تتملقه وتثني على قدراته الخارقة في التعامل مع الدكتور وادارة الأمور على أفضل ما يكون و أحباط محاولات رجال الدكتور في الأطاحة به أو الوشاية ضده لدى الدكتور كل يوم ، كان قسما كبيرا من أحاديث الجلسات المسائية تدور حول العمل ما تم والمزمع عمله غدا ومستقبلا ، لكن الأمر لا يخلو من طرفة أو ضحكة أو قفشات أو التطرق لموضوعات أخرى عامة على سبيل الدردشة ، وقضاء الوقت وبالطبع بدأ بعضهم ينفر من بعض و تحول التنافس بينهم للتقرب من جودت الى كراهية متبادلة وصراع بارد كل منهم يريد ان يتقرب على حساب الباقين ، و يبدو ذلك جليا في تباين الأراء في أي موضوع حتى لو كان بديهيا ولا محل فيه لخلاف ، جودت كان سعيدا بروح الكراهية والصراع السائد بين محيطيه فهى ترضي غروره جدا لأنه تملكهم جميعا ويتنافسوا على ايهم يكون ألأقرب اليه كما انها تضمن له عدم اتفاقهم ضده كذلك فأن التباين والتضاد يفرز تيارات متعاكسة الرؤى تفتح له منابع لأفكار جديدة يستخدمها جودت لأثراء خبرته العملية والأدارية و الأستثمارية ، و بدأت الصحبة شيئا فشيئا تتدخل في خصوصيات الشركة بحجة المشورة والأدلاء بالرأي والتسابق على اظهار خوفهم على جودت وحرصهم على مصلحته و توفيرا للنفقات فهم يعرفوا مدى حبه للتوفير جدا ، و أصبح أسمهم المعروف همسا بين موظفي الشركة ( الخمسة الكبار) حيث لا يجروء احد على التعليق على اسعارهم العالية مقارنة بأعمالهم السيئة وهم الشيخ فادي عثمان مقاول الكهرباء والمهندس عاطف سيدهم مقاول عزل ، والمهندس احسان الراوي مقاول في كل شيء ، والحاج مسعود حافظ مقاول الصحي ، و سعيد بشلة مقاول الرخام ، و على الرغم من كونه ليس مقاولا ولا موردا كان منصور جريشة صاحب مقعد مقرب جدا و ثابت واساسي في اللقاءات المسائية لكنه بالطبع كا ن يستفيد بعقود تامين كبيرة من الشركة الجديدة ، ، وكان يغار جدا على علاقته بجودت ولايرضى عن المقعد الأدنى بديلا ، منصور كان أبن نكتة ذكي وعصامي اعتمد على نفسه وسافر للعمل في انجلترا ثم عاد وأحترف التأمين ، مهنته كانت غالبة على طريقته في الحياة وعلى شخصيته فهو لبق جدا ومتكلم ويجيد لعب دور المستشار كان صاحب اقوى العلاقات بجودت و أكثرها ثباتا واستقرارا ، استطاع أن يجذب جودت لعالمه و يغمسه في الجو الأسري المتوفر في بيته بالدقي فزوجته طاهية ممتازة ومحبة لزوجها منصور لأبعد حد و بالتالي لكل معارفه واصدقاؤه ، وكيف لا وقد تزوجها رغم تواضع مستواها الأجتماعي مقارنة به ، كانت شريكته في كل شيء حتى العمل كانت تشاركه انتاج عقود التأمين بعد ان علمها ورسخ قدميها لأنه كان مريض بنوع متقدم من السكر والكلى، ومنصور رجل فكاهي و صاحب تقاليع و تغيير مستمر في طريقة حياته ، فهو ملول بطبعه يحب التجديد المتواصل ، لقد نجح منصور في ان يجعل جودت يحبه كأنسان و صديق ، وان يغلب هذا الشعور على علاقة المصلحة والمنفعة التي توارت خلف هذا الغلاف الدافىء من العلاقة الأنسانية ، نجح في ذلك لأنه بفطنته ادرك أن جودت يفتقد هذا الجو في بيته لدرجة تجعله كلما نجح في عمله أكثر يبتعد عن البيت أكثر فاكثر ، ولا يريد العودة بحجة العمل و الأنشغال المستمر ، الوفاق الزوجي كان مفتقدا تماما بينه وبين حرمه مدام نجوى ، ربما تسرع في الأختيار او ربما اختلاف الأمزجة أو ربما أنصب أختياره على تماثل الغنى والثروة بينهما فقط دون نظر لاعتبارات أخرى ، أو ربما عدم قدرته هو على أنجاح العلاقة فهو مسئول ايضا عن هذا الأخفاق ، نجوى كانت من رواد النادي فتاة تعيش حالة من الأرستقراطية الطارئة ، الثروة في عائلتها ليست موروثة ولكنها مكتسبة من خلال تجارة والدها ، تعرف عليها وقرر الزواج منها رغم رفض الأم و تحفظ الأب عليها ، كان السن بينهما متقارب ويرى الوالدين انه كان بامكانه الفوز بشيء افضل ، لكنه أصر واراد أن يكون أختياره نابعا من رأيه على أعتبار أنه هو الذي سوف يتزوج ، وأيا كان سبب عدم التوافق الأسري بينهما ، ألزم جودت نفسه بحتمية استمرار هذا الزواج وان فكرة الأنفصال غير مطروحة تماما فمن الغباء ان يكرر التجربة القاسية لأبيه وأمه وان يساهم في معاناة ولده وأبنته مما عانى هو منه سابقا لا سيما وأنهم في مطلع سن الشباب وبحاجة لوجود ترابط اسري ، لذلك استمر جودت لكن في المقابل تحول منزله الفخم الى مكان خرب من المشاعر الأسرية و العلاقات الحميمية بين الأسرة و أستحالت الحياة فيه الى برودة موحشة ، نجوى لا تجيد الطهي ولا تجيد الشئون المنزلية لكنها تعتمد على الطباخة والخادمة لكن جودت يأنف من هذا الطعام ولا يستسيغه ، الأب مشغول بعمله طوال اليوم والأم أيضا لها حياتها الأجتماعية بالنادي وكذلك الأبن والبنت لكل منهما عالمه الخاص من الأصدقاء ،بمرور الوقت ازدادت حالة الأحتقان داخل الأسرة و دار بين الزوجين حالة من الصراع لأستقطاب الأبناء كل لصفه ، أهتم جودت بالأبن جدا كان هو أمله ويرى فيه خليفته المستقبلي الذي سوف تؤول له الثروة ، فاهتم كثيرا بدراسته و ترغيبه في رياضة الفروسية وأرساله للبطولات في اوروبا بمفرده لشهور عدة ، حاول جودت ان يصطحبه ويصادقه ويقترب منه ، بينما عملت الأم مع الفتاة الشيء نفسه ، الفتاة كانت متفوقة دراسيا لكن علاقتها بالأب كانت باردة لأبعد حد ، هو أيضا لم يبدي تجاهها الأهتمام ذاته الذي وجهه للأبن ، كانت الأم قلقة جدا على الفتاة التي انهت دراستها في أحدى كليات القمة بتفوق لكن على الرغم من الثراء والمركز الأجتماعي المرموق و العلاقات المتشعبة هنا وهناك التي تتمتع بها الأسرة فلم يتقدم أحد لخطبتها ، جودت شخص غير محبوب في النادي وكثير من الناس تتجنبه و لا تسعى للتعامل معه والأقارب ليس لديهم العريس المناسب من حيث السن ، الفتاة نفسها كانت متعالية جدا ومغرورة بشكل مستفز ولا تجيد تقديم نفسها كفتاة تصلح لأن تكون عروسا ، نجوى كانت تتهم جودت بالمسئولية عن هذا التأخير فهو غير مهتم بالأمر والوقت يمر و هوعاجز ان يستثمر علاقاته الكثيرة في اختيار عريس مناسب للفتاة ، بينما جودت يرى انه لن ينشر أعلان ليطلب عريس لأبنته وأن هذا هو دور الأم من خلال سيدات المجتمع من معارفها وانها لو كانت تجيد بناء علاقات صداقة جيدة لنجحت في حل هذه المشكلة ، جودت من وقت لأخر و تحت ضغط زوجته كان يفكر في بعض الموظفين لديه ، فكلهم من الشباب الصاعد ، لكن طبقيته وفارق المستوى المادي الكبير والأجتماعي ايضا كان يقضي على الفكرة في مهدها فكيف يزوج ابنته لشخص ثم يصرف هو عليه ، في ظل هذه الأجواء المتوترة أبتعد جودت عن البيت حتى لا تحدث المشاجرات الدائمة بينه وبين نجوى مما يؤثر على نفسية الأبناء ، والتقطه منصور صديقه يعوضه جزئيا عن هذه الحاجة الداخلية . بينما كان أحسان أحد اقارب جودت من ناحية أمه يسعى هو الأخر للتقرب من جودت ليحافظ على نصيب من مكاسب الوضع الجديد لقريبه فهو يرى أنه أولى الناس بالأستفادة من جودت ، لم يكن جودت متحمسا لوجود أحسان أبن عم والدته معه في العمل كان يرى ان علاقة القرابة سوف تؤثر سلبا على سير العمل بينهما لكن توصية الأم وألحاحها بأن يساعده لأن لديه أولاد كثيرين جدا و يحتاج لمساعدة ، هذا هو الذي جعله يقبل على مضض فأسند له بعض اعمال المقاولات ليكسب منها شيئا من المال ، كانت شخصية أحسان مختلفة عن جودت تماما فأحسان شخصية أنبساطية هادىء جدا ودائم الأبتسام والعمل بالنسبة له وسيلة وليس غاية فهو وسيلة لكسب الرزق و تربية الأبناء حتى يتزوجوا ويستقلوا بحياتهم فهو لا يسعى لتكوين ثروة هائلة بقدر ما يريد ان يستمتع و أن تستمتع أسرته برحابة العيش وجمال الحياة ، كان رجل اسري من الطراز الأول يحب البيت و جلسات الأبناء من حوله ، تمتلىء جدران منزله بصور عائلية كثيرة وصور لأفراح بناته في الكوشة وصورة فرحه تتوسطهم ، فهو يعتز بها كثيرا لأنه يحب زوجته فريدة للغاية وهى كذلك ويظهر جودت في الصورة وقد كان لا يزال طفلا يقف بجوار (انكل) احسان الجالس الى جوار عروسه في الكوشة ، منزله يعج بألاحفاد والدفء والحركة العائلية متواصلة حيث البيت محطة لكل بناته المتزوجات ، بنت قادمة تزور أبوها وأخرى تودعه عائدة لمنزلها وهكذا ، أحسان لأنه مهندس معماري يحب الديكور جدا ، منزله في الدقي عبارة عن تحفة فنية رائعة الجمال لأنه دائم التواجد بالمنزل بعد أن يغلق معرض الأثاث الذي يملكه فأنه يتفنن في زخرفته و الأعتناء الشخصي به ، و أحسان أيضا رجل يجيد الطهى كأفضل شيف ويعشق الطعام جدا وهو ذواقة بطبيعته ، ولعل ذلك هو سبب بدانته المفرطة و جسمه البرميلي شديد الأمتلاء ، حقق احسان مكاسب جيدة من وراء جودت فتحت شهيته أكثر للمزيد لكن العناصر الأخرى المحيطة بجودت كانت تقيد حركته و تحجم من حريته في الأنفراد بجودت على نحو يرضيه ، حاول احسان أن يشد جودت لعالمه العائلي الكبير ، لكن علاقة القرابة كان تجعل الأخير يتحرج من تكرار الزيارة ، كان يشعر بالأرتياح اكثر في منزل منصور جريشة كما انه كان لا يرتاح لقريبه أحسان فهو يشعر ان احسان سعى ليوطد علاقته به مؤخرا فقط من أجل المصالح ، كان الأمر واضحا والا فأين كان أحسان قبل ذلك ، العلاقات العائلية بينهما كانت شبه مقطوعة بحكم الأنشغال في هموم الحياة ، ثم اعادها احسان من ناحيته راغبا في تقويتها ، وبذلك صار عداءا مفضوحا بين منصور وأحسان كلاهما لا يحب الأخر لكن منصور كان اكثر ذكاءا وحصافة حيث كان دائما يكشف نوايا أحسان وأهدافه أمام جودت الذي لا يعلق ، المهندس فادي عثمان ايضا كان واحدا من المحيطين شديدي الذكاء والمحافظة على علاقته بجودت طيبة جدا ، فادي رجل طويل اللحية يحب ان يلقبه الناس بالشيخ فادي فهو يعتبر نفسه رجل متدين ، يؤمن بتعدد الزوجات فقد سبق له أن تزوج عشر مرات ، ودائما يكون على ذمته أربعة نساء مستعد للدفاع باستماتة عن التعدد بالحجة والبرهان والدليل ، فادي ليس مهندسا لكنه دبلوم اكتسب اللقب بخبرته فهو يفهم مثل أي مهندس في أعمال الكهرباء لأنه محترف وأبن سوق في المهنة ، ينتمي لأرياف الدقهلية ، عاش حياة فقيرة جدا في شبابه لدرجة انه لم يكن في جيبه أجرة طبيب الولادة حينما استقبل مولودته الأولى فذهب بزوجته على دراجته البخارية وهى تعاني ألاام المخاض الى اقرب مستشفى حكومي ، سافر للعمل بالعراق واستطاع بذكائه وحسن حديثه ان يتعرف على مسئول البعث في شمال العراق انذاك وحقق مكاسب كبيرة قبل أن يعود ليبدأ عمله الخاص بفتح شركة أعمال كهربائية ، جاب ارجاء اوروبا بقطار الشرق قبل ان يتم وقفه وله فيها ذكريات ساخنة جدا!!! يعشق النساء عشق جنوني وله في وصفه لذلك رؤية ونظريات غريبة للتمييز بين أنواعهم المختلفة !! و على الرغم من كونه تخطى الخمسين ويعاني من مرض السكر الا انه مازال مقبل على الزواج معتبرا ان ذلك فريضة توجبها حالة العنوسة التي يمر بها المجتمع ، يحب الزواج من الفتايات الصغيرات ومن الطبقة المثقفة جدا والمتعلمة ، لديه قدرة خارقة على اقناعهن بالموافقة على الزواج منه رغم أنهن يكن جميلات جدا وصغيرات ورغم أنه لا يقدم سوى أشياء عادية من الأثاث والذهب غير انه يتكفل بكل شيء تقريبا ، فادي اصبح لديه عدد كبير من الأولاد والبنات يخطأ في أسماؤهم دائما ، مدخل فادي الدائم للحديث مع جودت هو المدخل الديني من القران والسنة ، جودت رجل قليل المعرفة الدينية بشكل مخجل لكنه بين الحين والأخر كان يواظب على الصلاة في مكتبه ، البعد الديني في تربيته كان هشا للغاية لذلك كان الحديث معه بلغة الدين مسألة لا يستطيع فيها اطالة الجدل والمقاومة ، كان فادي متميزا على كل المحيطين ومتفوقا عليهم في هذه الناحية ، فلا يفوقه أحد عند الحديث عن الدين غير أن الأمر في كثير من الأحيان لا يعدو ان يكون صادرا من حنجرته فقط ، كان يدرك أن المعرفة بالدين في المجتمع الشرقي اطار جيد لتقديم الشخصية للأخرين وتحقيق المكاسب فالدين له سطوة كبيرة واحترام بين الناس كما ان جهل المجتمع بالدين حاليا يجعل كل من يلبس عباءته موضع أحترام وتقدير وثقة من العامة لضعف معرفتهم وحاجتهم لمن يعرف أكثر منهم في هذا الطريق ، الحاج مسعود حافظ رجل محترم جدا مهيب الوجه ثابت الملامح لديه شركة مع اخوته تتطور بسرعة ، ليس معه أي مؤهل لكن خبرته الحياتية أعظم من أي دراسة واي شهادة ، فحديثه الفطري يقطر بالحكمة وتدل على رجل عرك الحياة ، لا يتحرك بدون محاسب ينظم له الأمور وفي كثير من الأحيان يتحدث بدلا منه ، جودت يحترمه ويجله كثيرا فلا يغضبه أبدا ، الحاج مسعود رجل يحترم نفسه جدا ويعتز بها و لا يرضى بأقل من مستوى معين من المعاملة ، فشركته متنامية ولها سمعة كبيرة في السوق وشهرة متزايدة ، ومنذ ان حدثه جودت بطريقة غير لائقة هاتفيا واغلق الحاج مسعود الخط ثم ما هى الا دقائق وكان مندفعا من مدخل الشركة لمكتب جودت ودفع الباب بقدمه ودخل على جودت وهو غضبا يصيح محذرا من تعامل جودت معه بهذا الأسلوب مرة ثانية و انه يختلف عن أي شخص اخر فأن جودت يخشاه ويهابه تماما ، المهندس عاطف سيدهم صديق دراسة للمهندس جودت منذ الطفولة في مدرسة سان جورج ثم الكلية وهو قبطي من أسرة ثرية جدا واليه يعود الفضل في تعيين صفوت لدى جودت ، جودت ضعيف جدا أمام هذه الصداقة ، يكره ان يغضب عاطف ، وجود عاطف و الحاج مسعود في السهرات المسائية طفيف جدا ، أنضم أخيرا لهذه الشلة المعلم سيد بشلة مقاول الرخام ، وبالمناسبة فهو يكره لقب المعلم جدا ويفضل بدلا منه لقب أستاذ لأنه عام وغامض ، سيد بشلة من منطقة السيدة عائشة في منتصف العقد الرابع من العمر ، لا يحمل أي مؤهلات دراسية ، بدأ حياته عامل تركيب رخام يجلس كل صباح على مقهى الصنايعية بميدان السيدة عائشة حتى ياتي الرزق ، تعرف سيد على جودت عن طريق أحسان ، ثم ما لبث أن أستقل بنفسه وتلقفه جودت ليصنع منه مقاول رخام واعد جمع سيد أشقاؤه الأشقياء وقرر ان يحولهم لفريق من الصنايعية يعمل تحت يده , أسمه الحقيقي سيد صبحي وشهرته سيد بشلة نظرا للبشلة الواضحة في وجهه من مشاجرة قديمة ، أجرى العديد من عمليات التجميل لأخفاءها دون جدوى ، سيد تحول في فترة قصيرة لمقاول كبير يركب سيارات فارهة ويمتلك ورشة كبيرة ويشتري رخام بكميات كبيرة من شق الثعبان لحساب جودت و مشروعات الشركة ، هو رجل متطلع جدا للمزيد من الصعود يحاول ان ينسج حوله كثير من القصص والحكايات ليغير الصورة القديمة عنه ، تعلم استخدام الكمبيوتر وبعض كلمات اللغة الأنجليزية لكن لهجة الصنايعية مازلت ناضحة على تعبيراته وطريقة نطقه فهو ينطق الطاء تاء فمثلا بدلا من أن يقول طن يقول تن و هكذا ،،،، انضم سيد لمجالسة الكبار و مجارتهم بغية تقليدهم و التعلم منهم ، وجوده كان وسيلة من وسائل الترفيه والمرح فحكاياته الملفقة وتعليقاته وطريقة تصرفه في المواقف المختلفة تدخل شيئا من الكوميديا على الجلسة و توقع الجالسين من الضحك عليه ، سيد نموذجا صارخا لأشياء كثيرة خارج نطاق الممكن والمعقول في حياتنا هذه الأيام فالسرعة التي تحول بها كانت مبهرة وتمثل دليلا على حجم العبثية التي يعيشها المجتمع ، سيد كان يشعر أن موظفي الشركة ينظرون اليه نظرة دونية ، الجميع كان يتعمد أن يقول له يا معلم سيد ، فكان يحاول أن يعاملهم بنفس الأسلوب وكثيرا ما عرض على احدهم ان يترك الشركة ويأتي ليعمل عنده بمرتب أكبر ويقول (مافيهاش حاجة) ( بيزنس أز بيزنس ) ، تلك هى المجموعة الرئيسية التي أحاط جودت نفسه بها بالأضافة لبعض الموظفين المتنطعين والذين كانوا يتطفلوا على هذه الجلسات ليشاركوا في العشاء و تدخين الشيشة ، كان جودت بحاجة ايضا لأن يقرب منه بعض الموظفين أصحاب المهارات الخاصة والذين لديهم القدرة على تقنين تصرفاته و معالجتها من الناحية الفنية كل في تخصصه حتى تبدو قانونية و لا تثير أي شكوك ، المهندس ماجد مرتضى كان واحدا من هؤلاء فهو كفء جدا فنيا كما انه غزير المجهود ويعمل دائما باقل تكلفة مما يضاعف ارباح جودت ويسعده ، لكن ماجد في المقابل يريد نسبة من الكعكة بالأضافة لمرتبه الكبير وميزات أخرى ، هو نسخة مصغرة من المهندس جودت ولديه هدف واضح هو تكوين ثروة تتناسب مع حجمه من وراء المهندس جودت وبأي ثمن و في سبيل ذلك كان على استعداد لفعل أي شيء ، ايضا صفوت كان المحاسب المسئول عن معالجة أمور كثيرة فنية وضريبية وبعد أن قرر جودت نقله للمصنع الجديد في 6 أكتوبر حتى ينهي مشكلاته المستمرة مع عارف فهيم كان خليفته رشدي الذي ورث كل عمله ، والثالث كان رمضان حمودة الذي يقع عليه عبء المهام الشاقة ودفع الرشاوي و تسويتها الخ.....، هذا الفريق كان يحب رشدي ان يطلق عليه فريق العمليات القذرة ، ومثلما كان الصراع دائرا بين المقاولين على التقرب لجودت كان صراعا مماثلا يدور بين الصغار من الموظفين ، لقد نجح جودت ان يجعل من نفسه محور تفكير كل هؤلاء مستغلا في ذلك أطماعهم في تحقيق المكاسب وجني بعض الثمار بينما أحتفظ لنفسه بالشجرة نفسها ، جودت كان لا يبين لأي موظف اهميته و لا حيوية دوره بالنسبة له فهذه قاعدة هامة و اذا ادرك أي موظف اهميته وتصرف بناءا على هذا فان جودت يضحي به على الفور لكن لا يتنازل ابدا امام موظف أو مقاول يلوي ذراعه ، لقد بلور جودت علاقته
لجام الحرية
وقفت كعادتي في الساعة الرابعة بالقرب من دفتر الحضور والأنصراف متأهبا للأنطلاق ، هذه المرة تعدت الساعة الرابعة ومازالت موجودا برغبتي في الشركة ، رغم اني لن أسهر لكني أنتظر رمضان لنخرج سويا ، رمضان دخل عند جودت لتسوية بعض عهد المشتريات وأبلاغه بنتيجة المهام التي سبق وكلفه بها ، مكتب المهندس جودت يعج بالجالسين من كبار المهندسين وبعض المقاولين الكبار اصدقاء المهندس جودت أيضا ، لقد دخل رمضان في توقيت سيء كما يفعل دائما ، لكنه تعجل أمره حتى يسارع بالأنصراف ولا يضطر للأنتظار طويلا ، المهندس جودت في حالة مزاجية سيئة ومضغوط بمناقشة مشاكل العمل بالمواقع، ففي مثل هذه الجلسات يكون جودت مستمسكا بنصل تركيزه اللامع يقطع به في كل أرجاء الحجرة كلمات وردود مستخدميه من المهندسين ، أنه يوم الحساب الأسبوعي الذي يراجع فيه صنوف أعمالهم وكشوف مصروفاتهم ، كان لجودت عقلية ناقدة لا تقنع بسهولة ولا تتقبل الأمور في أثوابها التي يزينها بها ألأخرين ، قريحته لها ملكة التفنيد والمضاهة والمقارنة والتذكر ، وعلى قدر ما تكون هذه الجلسات مرهقة لعقله وجسده ، بيد انها محببة لنفسه ، فجأة وجد رمضان واقفا امامه يمد اليه أوراق العهدة ليعتمدها ويريد ان يقطع عليه أجتماعه ليتحدث في مأمورياته التي اداها ومأمورية باكر ويطلب عهدة جديدة..........ألخ ، انفجر المهندس جودت في غضبة عارمة موبخا اياه بكلمات حادة قاسية ثم طرده من المكتب ، أحتج رمضان بصوت عال ووقف يجادله بينما استمر جودت في صب المزيد من حمم غضبه على أم رأسه ، كانت اصواتهم المختلطة مسموعة بوضوح خارج المكتب ، تدخل بعض الجالسين كل بكلمة لمجاملة رئيس مجلس الأدارة او لتسخينه على رمضان مثل المهندس محمد مصطفى مدير احد المواقع و اشتبك رمضان مع المحرضين عليه في تلاسن حامي فقام احد المقاولين ونصحه بالخروج ، خرج رمضان حسونة من مكتب المهندس جودت غاضبا مطلقا العنان لساقيه ومغادرا العمل وهو يصيح رافضا أسلوب تعامل المهندس جودت معه ، كان رمضان شخص متمرد بطبيعته زئبقي وتصعب السيطرة عليه و جودت هوايته وحرفته ترويض المارقين وتسويتهم على نار هادئة فهو على دراية تامة بطبيعة شخصية رمضان الثائرة ، ، لحق رشدي بزميله على باب المصعد و انطلقا الى مقهى البستان وسط البلد الذي يرتاده المثقفين ، خيم عليهما الصمت بعض الوقت وما ان وصلا حتى عقدا اجتماعا لمناقشة الأمر ، كانت هذه عادتهما دائما منذ ان توطدت علاقتهما في كل ما يعن من امور الشركة التي لها علاقة بهما بشكل مباشر او غير مباشر أن يجلسا سويا ليقتلاها بحثا من باب تمضية الوقت و تبادل الراي ، ولقد تعلم كلاهما من الأخر الكثير فرشدي رجل مرفه ثقافته تليفزيونية بالدرجة الأولى قراءته تنحصر في السياسة و التاريخ يحب الرياضة بينما رمضان لا يميل للتليفزيون كثيرا وغير معتاد عليه لأنه غير موجود بالبيت ، رشدي يشعر بأن رمضان هو قاطرته للخروج من شرنقة الأسرة والصعلكة وسبر غور عالم الحياة ، بينما وجد رمضان في زميله تواضعا ونقاء السريرة التي تجعله يثق فيه بحيث لا يجد حرجا في ان يتحدث معه في ادق تفاصيل حياته ، بدأ رشدي الحديث متعجبا من أسلوب المهندس جودت القاسي و المهين في معاملة رمضان ، كانت كلمات رشدي من دون قصد سياطا يدمي اذني رمضان و يعمق احساسه بالكراهية والحقد على هذا الرجل الجبار وتزيد من جراح نفسه المتقيحة وتهيج بداخله مشاعر الثورة على هذا الوضع ، لم ينطق رمضان ببنت شفة ، أنتفض واقفا وطلب مني ان الذهاب معه لسكنه لأنه يريد ان يطلعني على شيء ، رشدي يعلم أن زميله من أبناء المنوفية و أنه يقيم بالقاهرة على حدود الزمالك فكان يتوقع انه سوف يصطحبه الى الكيت كات أو أمبابة أو الوارق مثلا ، فوجىء بأن رمضان أوقف تاكسيا وطلب منه الذهاب لشارع شهاب بالمهندسين ظن انه ربما سوف يقضي امرا ما ثم يتوجه لمسكنه ، لكن رمضان طلب منه أن يصعد معه الى بناية فخمة جدا صعد رشدي وهو مذهول حين ادار رمضان مفتاحا في احد الشقق بالدور الرابع ودخل ومن خلفه رشدي الذي بدا مشدوها من هول ما رأى ، كانت شقة بدون تشطيب تماما خالية من أي أثاث ومن الكهرباء يحتل رمضان أحد غرفها ينام على عدد من الألواح الخشبية متراصة فوق بعض الطوب ، مغطاة بالجرائد ويعلق ملابسه في مسامير مثبتة في الطوب الأحمر بينما تضاء الحجرة عن طريق (كلوب) وفي بعض الأحيان يستخدم أضاءة الاعلانات التي تقتحم الحجرة بجرأة من النافذة فلا زجاج او شباك خشبي يمنعها اللهم الا جوال بلاستيك يسدها به ، أكداس من الكتب على الأرض كأنها ماكيت لعمائر متباينة الأرتفاعات ، ازدادت دهشتي التي عقدت لساني بينما بصري المضطرب جائل لتفاصيل المكان ، يخط بلغة الحيرة اسئلة صعبة ، أرنو الى رمضان والسؤال يتقافز على لساني مثل قرد فزع ، خر رمضان مقعيا على حصيرة بلاستيكية ملونة يغطي بها الأرضية الأسمنتية ، فيما جلست أنا على سريره الحجري ، وبدأ يحكي لي التفاصيل ، عندما تعرف على المهندس جودت كان يسكن مع بعض الأشخاص في شقة بامبابة وكان العدد كبير والشقة ضيقة ويساهم في ايجارها بمبلغ مرتفع ، يقف كل صباح طابور طويل امام الحمام ، اثر ذلك على انتظامه في العمل فكان لا ينام جيدا و يذهب متأخرا كل يوم ، طلب من المهندس جودت ان يمنحه بدل سكن ليساعده في الحصول على حجرة منفصلة ، تذكر جودت أن زوجته تمتلك شقة بدون تشطيب بالمهندسين وانه يمكن أن يتهرب من مسألة بدل السكن هذه بان يسمح لرمضان بألأقامة فيها ، وبالفعل حين أخبره بالأمر كاد رمضان ان يطير من الفرحة لكنه حين ذهب معه للشقة صعق من حالتها ومنظرها وادرك من كلام المهندس جودت أنه يريد فقط خفير لحراسة الشقة و تامينها بعد أن دخل صاحب العمارة في مشاكل مع بعض الملاك ، رفض جودت أن يجري أي تشطيبات بالشقة ، حتى الحمام رفض ان يشطبه ، بل أعتبر جودت انه بذلك اسدى معروفا كبيرا لرمضان بعد ان وفر له مأوى مجاني ، وحقيقة الأمر انه ليس مجانيا بالمرة وأنما دفع رمضان قيمته غاليا من مرتبه الذي لم يزيد من سنوات ، ومن كرامته التي تهان يوميا ، وكلما طلب زيادة لمرتبه يذكره جودت من طرف خفي بالشقة ، فيعود رمضان أدراجه خانعا مستسلما ، أثرت هذه الحادثة كثيرا في وجداني وغيرت من نظرتي لأمور عدة لأنها علمتني أن جودت ليس عنده شىء بدون مقابل وكشفت لي عن مكنون ذاته في حب السيطرة على الأخر و سحقه وتملكه بعد أن ينقض عليه كالعقاب الجائع ، و فسرت لي طبيعة علاقة لم أكن أفهمها بين رمضان وجودت ، لكني لمت كثيرا على صاحبي قبوله هذا الوضع و أستمرائه أياه حتى صار قيدا يطوق رقبته ، و رحت أنفخ فيه مرة ثانية روح الكبرياء ، والحقيقة ان رمضان لم يكن فاقدا للأعتزاز بالنفس ولكنه كان يؤسسه على الكفاح و المكابدة والفقر الشريف الذي لا خجل منه ، ولذلك لم يرى غضاضة في أن يسكن في هذا المستوى لأنه في طور بناء مستقبله ، لكن هذه المصطلحات ليست ضمن قاموس جودت الذي تحكمه مصلحته الشخصية ومدى احتياجه للأخرين ومدى احتياج الأخرين له ، كان دائما يردد عبارة غشها من الدكتور اسماعيل شامل ، عندي ثلاثة أنواع من الموظفين نوع بيشتغل ونوع بياكل عيش ونوع مفروض عليه ، وبينما كنا نتبادل الرأي دق هاتف رمضان المحمول ،كان المهندس جودت هو المتحدث بلهجة هادئة واحترام شديد طلب من رمضان المرور عليه في الصباح بمنزله بضاحية الزمالك ليكلفه ببعض الأمور ، لاحظت مدى قدرة جودت في التأثير وتحكمه في وتيرة العلاقة صعودا وهبوطا فقد بدا رمضان منتشيا بالمكالمة وأرتفعت معنوياته فجاة لمجرد ان الرجل حدثه بأسلوب هادىء ، أنفض هذا اللقاء بيننا وقرر رمضان البدء في البحث عن شقة ليدشن لمرحلة مختلفة من العلاقة مع المهندس جودت او هكذا كان يمني نفسه.
*****************
صراع
، كان صراعا كالبركان يموج تحت السطح ، يثور فيطلق حممه أو يهدأ لكن باطنه جحيم سائل ، بين كل من جودت وعارف ، بين رئيس مجلس الأدارة والمدير المالي ، كلاهما يخشى الأخر وكلاهما يتجنب الأخر قدر المستطاع لأن صدامهما سوف يصل بالضرورة الى مسامع صاحب مجموعة الشركات الدكتور / اسماعيل شامل ، فجودت في نظرعارف مجرد موظف مثله تماما ولكن غاية ما هنالك انه موظف كبير بعض الشيء اختاره الدكتور ليترأس هذه الشركة، بينما يرى جودت ان عارف فهيم (مش عارف حاجة) كما يقول دائما قبل أن يطلق ضحكة فاحشة ، وأنه مجرد فلاح قليل الذوق ضيق الأفق محدود الفكر لا يجب أن يفكر لأن التفكير يمرضه ، عليه فقط أن ينفذ ، لأنه لايفهم حقيقة العلاقات والتوازنات بين جودت و الدكتور اسماعيل و التي يراها جودت صارت علاقة أستراتيجية تخطت مرحلة الرئيس والمرؤوس ووصلت لعلاقة الأب بأبنه ، فكثيرا ما قال له الدكتور انه يذكره بشبابه و كثيرا ما اثنى على عمله ومجهوده ونجاحه في أدارة شركة المقاولات وما حققته من أرباح على يديه وتحويلها لثلاثة شركات ....ألخ ، وكثيرا ما أصطحبه معه لمقابلات حساسة مع مسئولين كبار أو في سفريات هامة بالخارج ، جودت كان واثقا من علاقته بالرجل الكبير و كان يتصرف على أساس انه صاحب الشركة فهو يرى انه أشترى أسم المجموعة من الدكتور أسماعيل شامل مقابل ان يدفع له عدة ملايين سنويا ، هذا هو كل ما يهم الدكتور أسماعيل شامل ، شركة تنفذ له أعمال المقاولات التي يحتاجها بأسعار أقل من السوق ، و عدة ملايين مضمونة من أرباح هذه الشركة تدخل حساباته سنويا دون عناء ، وفي المقابل يحصل جودت على عقود عمل سخية ومضمونة عن طريق أتصالات الدكتور و يفعل ما يشاء ، لقد فهم اللعبة جيدا بهذا الشكل وراح يدير الشركة على هذا الأساس ، عارف فهيم الحدق نقل من أحدى شركات المجموعة ليتولى مهمة الأدارة المالية بتوصيات من الحرس القديم بالمجموعة بحيث يراقب تصرفات جودت ويحاول كشف أي مخالفات يقوم بها ، كان قدامى كبار موظفي المجموعة يخشون من نجم جودت الساطع وأسمه المتألق في المجموعة وعلاقته الوطيدة بالدكتور و يخافون من طموحه وحماسه وذكائه الحاد جدا ويشعرون بالرعب من صعوده الصاروخي مخافة أن يغطي عليهم وبالفعل صار جودت خلال فترة وجيزة الفتى المدلل للدكتور شامل و بدأ يصنع لنفسه حول الدكتور لوبي مؤيد له وينفق عليهم ببذخ شهريا ، عارف في قرارة نفسه كان على أستعداد للتخلي عن الصراع مع جودت والكف عن ملاحقته شريطة أن يمنحه الأخير بعضا من فتات الكعكة خاصة أنه كان عاجزا عن الأمساك بأي شيء يدينه ، لكن جودت تعامل معه باسلوب مختلف من المراوغة والملاعبة بحيث يشعره بأنه متفهم تماما لحقيقة دوره بالشركة و سبب وجوده معه كعين عليه أو عصفورة كما يطلق عليه ، و يوحي أليه بانه غير مكترث بهذا الدور ولا خائف منه وانه يفعل ما يراه كمالك وليس حتى موظف كبير ، وانه سوف يعطي ويمنح بمزاجه وليس بسياسة لي الذراع التي يلوح بها عارف فهيم الحدق من وقت لأخر ، كان على يقين من أن عارف ولائه الأول دائما سوف يكون لمن زرعه بالشركة ، وانه طماع لن يقنع ابدا مهما اخذ ، كان جودت مربي خيول و فارس وخيال قديم ، لذلك فان اسلوبه هو الترويض والمسايسة و النفس الطويل ، يجيد سياسة الشد والجذب ببراعة ، يعرف متى يظهر السكر ومتى يشد اللجام ، كان يتعامل مع الموظفين على انهم خيول برية يلزم أستئناسها ، والمهندس جودت عبد الحليم فاضل نشأ وتربى في حي الزمالك لأب رتبة كبيرة بالجيش وأم من عائلة أرستقراطية والدها كان من الحاشية الملكية ، سرعان ما انفصلت عن الأب لعدم الأنسجام بينهما ثم سرعان ما تزوجت مرة ثانية من أستاذ جامعي وأنجبت شقيق جودت الوحيد نشأت والذي تربطه بأخيه غير الشقيق علاقة فاترة ، ورغم الثراء الفاحش للأم فقد ربت أبنها جودت تربية حازمة جدا وكانت تقطر عليه حتى يعرف كيف يحافظ على الثروة حين يكبر وليعرف قيمة القرش والجنيه جيدا ، وكذلك كان يفعل أبوه معه فقد خافا ان يؤدي انفصالهما لفساد الأبن و ضياعه ، مثل حالات كثيرة في النادي و بين معارفهما ، لذلك نشأ جودت نشأة جادة في حياة منظمة وشخصية مستقلة ومعتزة بذاتها وأصولها حاول خلالها أبويه أن يجعلا منه أنسانا يعتمد على نفسه ، يميل لأمه التي غذت في شخصيته الشعور الطبقي وانه من نسيج مختلف عن السواد الأعظم من الناس كانت تقول له دائما أنهم أذا كانوا قد ألغوا الألقاب فانهم لن يستطيعوا ان يجردونا من جذورنا وعراقتنا وتاريخنا ، لكن علاقته بأبيه كانت دائما متوترة ، فقد كان في قرارة نفسه يحمله مسئولية ألأنفصال عن امه و تمزيق الأسرة بسبب عصبيته الشديدة وعنفه مع الأم ، هوايته ورياضته المفضلة منذ صغره هى ركوب الخيل في نادي الشمس ، ثم تربيتها والتجارة فيها بعد ذلك ، غير ان هذه النشأة المتناقضة حرضت جودت دائما على محاولة أثبات ذاته على حساب اي احد اخر وكذلك الوسط الذي كان يعيش فيه طول الوقت كان يدفعه للسعي الى مزيد من الثروة وجمع المال حيث لا مكان في هذه البيئة الا للأثرياء فقط ، جودت يعرف ان كل رواد النادي والأصدقاء يحترموا بعضهم البعض على قدر ثرواتهم ، وبالطبع كان جودت ناقما على ثورة يوليو وانجازاتها الأجتماعية ، يرى انها ساهمت في تفتييت الملكية وأنها اتت بأشخاص متهورين لا يفهموا شيئا في السياسة ، خربوا البلد وحكموها بالحديد والنار ، كانت فكرته عن الحياة انها قائمة على الصراع الصريح وانها تضم فئتين من الناس السادة والعبيد و(انتهينا) على حد تعبيره ، فالدنيا اما أن تكون فيها راكبا فتكون سيدا وأما ان تكون فيها (مركوبا) فتكون عبدا ، فلا مجال للعواطف او الشفقة أو الرحمة لأنها معاني تقود للفقر والضعف من وجهة نظره ويمكن أن تحولك من سيد لعبد ، وانما قد ينطوي الأمر في بعض الأحيان على خيط رفيع جدا من الأنسانية لحفظ ماء الوجه وترضية الضمير وتحسين الصورة أمام الذات وأمام الناس ، كان جودت يرى أن الموظفين هم اقل ذكاءا من أصحاب الأعمال وأنهم لو كانوا أذكياء ما أصبحوا مجرد مستخدمين يقبلوا ان يتحكم فيهم أشخاص أخرين ، وأنهم ما داموا قد قبلوا ذلك فعليهم أن يتحملوا كل ما يفعله بهم أرباب العمل ، فهم مجموعات من التنابلة تريد ان تعيش على مجهود وابداع وفكر اصحاب الأعمال الذين يتحملوا المخاطرة والقلق و تقلبات السوق ، فكان يتعامل معهم من منطق الأذلال و كسر النفس وقتل الكبرياء بداخلهم ، فلا يفوت فرصة لأذكاء هذا الشعور عندهم ، لأنه يرى ان وجود مثل هذه الصفات في شخصياتهم تفسد أستجابتهم للتعليمات ، وتجعل لهم رأي شخصي في العمل الذي يقوموا به مما يخرجه على غير ما يرام ، وعنده أن الموظف لابد ان يشعر بالشدة والقوة والخوف دائما والا يكون لديه ما يسمى بالعشم في رب العمل أبدا ، فكان يتعامل مع الموظف تعامل الحداءة مع الأرنب البري الراكض ذعرا منها هيمنتها ، حين تنقض عليه من أعلى تحمله بمخالبها ثم ما تلبث ان تلقيه مرة أخرى ، فقط لتريه قوة مخالبها و توقع اليأس في داخله من محاولة النجاة منها ، ثم ما تلبث ان تكرر ذلك قبل أن تلتقطه مرة أخرى ، لتجثم فوقه و تنهشه ، هكذا كان يفكر جودت ، بدأ حياته مهندسا بأحدى شركات المقاولات الأجنبية و بدأ عمله الخاص بالتوازي في نفس التوقيت أيضا ، كان يعمل عشرين ساعة يوميا يخرج الفجر ولا يعود الا بعد منتصف الليل حتى ألتقى بالدكتور اسماعيل شامل الذي اسند له مشروع صغير على سبيل الأختبار حين نجح فيه وادرك انه أكتسب ثقة الدكتور فاقترح عليه ان ينشأ شركة للمقاولات ضمن المجموعة ثم دارت العجلة ، وعلى الجانب الأخر يرى فهيم الحدق أن جودت مثله مثل شخصيات كثيرة بالمجموعة هبطت على المناصب باساليب ملتوية و وانهم يستغلوا هذه المواقع في تهليب أكبر قدر من المال و تحقيق ثروات طائلة فالجميع يتوجس من الغد المجهول ، الدكتور اسماعيل شامل دكتوراة في الأقتصاد ، رجل له أتصالات علوية بدوائر صناعة القرار تدعمه و تغض الطرف عن مديونيتة الكبيرة بالمليارات للبنوك وله علاقات خارجية ودولية واسعة فهو شخصية غامضة يتردد انه يتاجر في السلاح ، عضو بارز في الحزب الحاكم ، ومصيره غير معروف لأن وجوده مرتبط بالمنظومة السياسية كلها في البلد ويمكن ان تتم الأطاحة به في أية لحظة أو التضحية به وجعله كبش فداء في اي قضية أو ان يذهب اذا ذهب النظام وبالتالي فأن كل من يعمل معه وحوله يسابق الزمن لتحقيق اكبر قدر من المكاسب قبل ان يسقط الرجل ، خاصة وان جميع شركات مجموعته تخسر تقريبا ويقال ان شركاته الخارجية هى التي تجعله يستمر ويقال أنه يتعامل مع المخابرات وروايات كثيرة تحاك حوله ، فهيم مدير مالي محب لمهنة المحاسبة فليس له هوايات أو أنشطة بخلاف العمل سوى تربية الموا شي والخراف في حظيرة ملحقة بمنزله بالبدرشين فهذه لحظات يجد فيها نفسه و يشغل وقته في شيء مربح ، أسعد أوقاته عندما يرتدي الجلباب البلدي و يجلس امام البيت يتبادل التحية مع المارة متقمصا شخصية العمدة ، يحب جدا ان يحترمه الناس وان يقولوا له استاذ عارف عائلته ليست كبيرة في البلد لكنه يكره تذكر ذلك او الأعتراف به ، مجامل جدا لكل العائلات فهو حريص على حضور المأتم والأفراح و أتباع الجنائز ، وهو من أسرة ريفية والده كان ميسور الحال يعمل بالفلاحة في ارضه ، لذا فأن النشأة الريفية متجذرة بداخله وما زالت لها بصماتها العميقة على شخصيته وطريقته في التعامل وكان دوما يردد مثلا شهيرا قالته أمه (التعبان لو ما لدعش تبقى الفتلة أحسن منه) ، كانت بدايته مفتش تموين و كل الباعة والجزارين يظنون انه مازال في هذه الوظيفة لذلك يحصل على افضل شيء ، لكنه سعى للعمل بالقطاع الخاص في اعقاب الأنفتاح أوئل الثمانينيات ونجح في الألتحاق بالمجموعة بمرتب لا يحلم به ، لاقى في البداية صعوبات كثيرة للتكيف و اثبات وجوده وسط حشد الموظفين من أوساط مختلفة ونجح في ذلك بعد معاناة وكفاح حتى صار واحدا من أفضل المحاسبين ثم المديرين المعروفين على مستوى شركات المجموعة ، معروف عنه انه وصولي جدا و متطلع للصعود ولو على حساب زملاؤه او عن طريق الوشاية بالأخرين لكنه شاطر في العمل ، هو رجل موسوس وشكاك لأقصى حد ، وصل لمرحلة الغرور المهني فكثيرا ما يردد ضاحكا أنه لا يجيد شيئا في الحياة الا الفحولة و المحاسبة !!! وأن المحاسبة علم أجتماعي مبني على المنطق و أشياء من هذا القبيل، ينصب نفسهمن خلالها منظرا لعلم المحاسبة وجهبذ من الجهابزة ، ومع هذا الغرور ورغم ما وصل اليه كان شعورا بالظلم يلهب صدره تجاه وضعه بالمجموعة والفجوة بين مرتبه و مرتبات اخرين ممن تم تعيينهم بالواسطة ، تفاءل عارف خيرا حين نقل للعمل مع المهندس جودت كان شكل جودت وأسلوبه في البداية كفيلا بأن يعول عليه عارف في تعويضه عن ما فاته في المجموعة لكن جودت خذله و عامله معاملة مزرية جدا ، جودت كان يعلم أن فهيم مدير مالي كفء ، لكن سياسته أن لا يشعر الموظف بكفاءته حتى لا يتطلع لزيادة المرتب أو لمكافأت ، بل يتصيد الأخطاء الساذجة والبسيطة و ينفخ فيهاحتى يقتنع الموظف أنه مقصر ومهمل ومستهتر في عمله ، ويفقد الثقة في نفسه تماما ، ثم يحمد الله على ان المهندس جودت يتحمله و لم يقطع عيشه حتى الأن ، وفهيم كان يعلم ذلك ويحاول جاهدا ان يتلافى أي خطأ او قصور وظل هذا الأمر يضغط على أعصابه باستمرار ويعكر صفوه كل يوم و يستهلكه ، ، وحين يطالبه مرؤوسيه بتحسين أوضاعهم ، يقف موقف المتهم المدافع عن نفسه الشاعر بالتقصير ، معظمهم تم تعيينهم من معارفه الشخصيين لذلك يشعر بالحرج منهم حين يبدو عاجزا عن تحقيق مطالبهم البسيطة ، كذلك كان جودت في حقيقة الأمر لا يريد معه مدير واعي حتى يستطيع أن يفعل مع يريد دون معارضة..... فوجئت بالأستاذ فهيم امامي ، لا أعرف ماذا أفعل ، أتردد بين أن أرحل او أنتظر لكن صوت فهيم مزق حيرتي وهو يناديني بأن أتبعه لمكتبه ، فهمت ان محاولتي للفرار قد باءت بالفشل وأن السهرة طويلة فحضور فهيم للشركة في هذا الوقت يعني أن هناك امرا هاما ، دخل فهيم لمكتبه ملقيا بنفسه فوق الكرسي وهو ينفخ ويزبد مناديا على الساعي (عبده العتر) كبير السعاة ليحضر له فنجان قهوة مظبوط بينما جلست امامه أجول بين ملامحه الغليظة ، اشعل سيجارته السوبر الطويلة وهو يتصل بكامل ليحضر له على الفور في مكتبه ، هرول كامل لمكتب الأستاذ فهيم مسرعا ، أرتمى على الكرسي المقابل لي وهو يلهث ، بادرنا بأن المهندس جودت يطلب بيانات هامة عليهم أعدادها الليلة ولابد ان تكون جاهزة على مكتبه غدا ليذهب لمقابلة الدكتور بها حتى يحصل على دفعة مالية كبيرة ، تجهمت فبذلك ضاعت جولتي اليومية بوسط البلد ، لكن كامل بدا مسرورا بالمكوث ، وهو يستأذن من فهيم بان يتصل بالمطعم ليرسل وجبات بعددنا حينها سأل فهيم عن العدد فاخبره كامل بانه أربعة بالأضافة لعبده العتر الساعي أستفسر فهيم عن الأربعة ، فعلم أن صفوت فوزي ليس من بينهم ، سأل عنه كامل فأخبره بانه غائب اليوم ، استشاط فهيم غضبا وهو يتمتم بكلمات ساخطة على هذا الغائب تكشف عن فيضا من الغيظ الجارف تجاه صفوت ، ثم أسرع بالأمساك بالتليفون متصلا بجودت يشتكي له من تكرار غياب صفوت واستهتاره بالعمل وأنه لا يتصل حين يغيب ليستأذن او يعتذر ، صفوت هو الوحيد المعين من طرف المهندس جودت وفهيم لا يحبه أطلاقا لأنه يعتبره ليس من رجاله في الادارة ، صفوت أيضا لا يكن أي ود ناحية فهيم ويرى انه أناني و نرجسي والأنا عنده متضخمة جدا ، صفوت قبطي في منتصف العقد الخامس من العمر ويبدو اصغر من ذلك بكثير ، غير متزوج وغير مكترث بأي شيء في الحياة اللهم ألا متعته الشخصية ورغباته الخاصة التي لا يستطيع ان يمنع نفسه عن قضاءها مهما كانت التكلفة حتى لو أضطر للسهر ولم يتمكن من الحضور للعمل في اليوم التالي ، وفي حى الظاهر حيث الجو الشعبي تربى صفوت لأب من جذور صعيدية يعمل في الصاغة بمرتب زهيد وأشقاء كثيرين بشقة ضيقة في الطابق الأول بمنزل مكون من طابق واحد في غمرة ، تشكلت شخصيته في هذا الجو الذي يتعايش فيه الناس جميعا على أساس حسن الجيرة والعلاقات الحميمية وتبادل التهاني في المناسبات والأعياد ولو على سبيل المجاملة , لكن لسبب أو لأخر اعترته هذه الحالة من اللامبالاة التي لا تحدها حدود وعلى الأرجح انها كانت صدمة عاطفية في مرحلة الشباب وقصة حب فاشلة دفعته لأن يكفر بكل ألتزام أو قيد يحد من حريته الشخصية ، صدمة رفض بعدها ان يكون أسيرا لأي معنى من معاني الحياة حتى الدين نفسه كان تاثيره خافتا جدا عليه ، ساعدته حياة الأنطلاق هذه على الأطلاع على كثير من المعارف والثقافات وعلى السفر ، فسافر للبنان وقبرص ومكث بضع سنين ثم عاد كما ذهب ، حين يحدثه أحد عن الزواج فأنه يتعلل بالحالة المادية الصعبة ثم يحسبها من كل زاوية حتى يبدو الزواج مستحيلا ، والحقيقة انه كان فاقدا للرغبة في الألتزام الذي يولده الزواج و خاصة الزواج وفقا لنظام الأقباط حيث لا طلاق فيه ، صفوت شخص حاد الذكاء ويتمتع بسرعة بديهة و روح الدعابة والفكاهة وهو بلغة الشارع صايع قديم لديه قدرة عجيبة على التأقلم والتكيف و التلون حسب المشهد بحيث لا يغضب منه أحد ،في بعض الأحيان يكون شجاع و صريح في رأيه جدا حين يشعر بظلم ، حين يقرر ان يتحدى نفسه ينجز حجم هائل من العمل في ساعات قليلة غير انه وحتى هذا الألتزام يتعامل معه على انه فزورة أو لغز أو لعبة مطلوب فيها التحدي و الفوز ، وذلك ليستنفر ارادته المعطلة ويشحن اجهزة الهمة المعطوبة بداخله وجزءا من ذلك أيضا كان يتجنب براثن عارف فهيم الحدق والتي يشعر انها متربصة به دائما ولكي يبقى بمأمن منها ، عليه ان يؤدي عمله على أكمل وجه حتى لا يترك فرصة للحدق يؤلب عليه المهندس جودت لكن غيابه الكثير و ضعفه أمام السرير وحب النوم في ساعات الصباح الأولى شتاءا وصيفا كانا كثيرا ما يوقعانه تحت طائلة العقاب و الخصم المالي من مرتبه ، لأن الغياب والتأخير والنساء هم نقاط ضعفه الوحيدة ، أهم مميزاته حب المعرفة لكل جديد فجهله بأي شيء يستفزه لأن يعرف ولا تمر الأمور مرور الكرام عليه ، لكن النميمة واحاديث الهمز و الغمز واللمز هوايته المفضلة داخل العمل وهو يهدف منها الى كسب ثقة الأخرين فيستقطب احدهم ليتحدث عن اخر وما ان ينصرف الأول حتى يستقطب ثان ويتحدث معه عن هذا الذي انصرف وهكذا ، كان صفوت يجتهد في ان يظهر لكل واحد من زملائه على حدة بانه زميل مخلص له وأن علاقة الزمالة بينهما خاصة ومميزة بينما الأمر على عكس ذلك تماما ، خاصة وهو يفهم طبيعة العلاقات بين كل أثنين او ثلاثة من مجموعة العمل ، من يحب من ومن يكره من والغريب ان ذكاؤه خانه تماما في هذا الأمر لأن الجميع كانوا قد فهموا طبيعته جيدا وتعاملوا معه على هذا الأساس بينما ظل هو لايدري ان طريقته باتت مكشوفة ، ولعل الأمر كان عادة سيئة جدا يصنعها الشعور بالقلق من ان يصبح الجميع سمن على عسل بينما يبقى هو وحيدا خارج هذه الدائرة ، و محاولة للمشاركة والمعايشة و المسايرة لعادة سيئة منتشرة في الشركة كلها ، صفوت كان متعصب جدا لمسيحيته ليس عن تدين و علم بتفاصيل عقيدته ، فلم يكن متدينا ولا مواظبا حتى على الذهاب لدار العبادة بل حتى في بعض الأحيان كان الجميع يشعرون أنه لا يؤمن بأي دين ، لكن أرائه كانت نابعة من تشيع غير موضوعي في كثير من الأحيان لفريق ينتمي هو اليه ولو بالأسم ، ثم كراهية للأخر الذي يرى انه مجحف ويحد من حريته التي كان يريدها بلا قيد ، كما ان شعورا بالأضطهاد يسيطر على تفكيره دوما ، ، لكن يبدو انه كان غير مستعدا لمواجهة ضوء الحقائق الكاشف وبرواز الواقع الذي ترسمه العلاقة بين ألأغلبية والأقلية و الذي لا سبيل لأنكاره أوالتنصل منه ، وهذه الحالة لم تكن قاصرة على صفوت بعينه لكونه قبطيا لكنها كانت حالة عامة تسود الجميع ، مجرد التحيز المبني على العصبية وليس على الأيمان الحق والنظرة الموضوعية للأمور ثم تقبل الأخر وليس رفضه بالكلية وكنت أرى أن مسألة الدين في بلدنا أصبحت أهلي وزمالك عبارة عن تشجيع أعمى ومناصرة على طول الخط حتى لو كان فريقي يؤدي اداء سيء وتخلى عن الأجتهاد حيث ان الدين وراثة لابد ان تستمر وتبعية لا يد فيها لأحد !!! وكنت أقول لزملائي دائما فيما بيننا ان صفوت مآله للأسلام في النهاية فلقد جرب كل شيء في الحياة ولم يعد هناك شيئا لم يفعله ألا الأسلام ومع ذلك فهو لا يشعر بأي راحة بعد ان عاش الحياة بطولها وعرضها ، و كثيرا ما ندخل في القسم في نقاشات دينية حادة يظهر فيها سطحية الجميع في قراءة الدين وأستقراء نصوصه و الخلاف بين صفوت من جهة والباقين من جهة أخرى و عدم أقتناع كلاهما برأي الأخر .....
الأربعاء، 3 يونيو 2009
شارفت عقارب الساعة على الرسو فوق الرابعة عصرا ، جلست على مكتبي أترقبها بنظرات قلقة ، متأففا أقضم اظافري ألتفت يمنة ويسرة ، كنت قد فعلت كل شيء ، لتمضية الوقت حتى يحين موعد الأنصراف ، شربت على مدار اليوم ما يقرب من ستة أكواب شاي كبيرة ، حتى الشاي الليبتون تبدل مذاقه ، أمسى طعمه مجنزرا ، قرأت الجرائد الثلاثة بالتفصيل ليس فيها جديد عن جرائد الأمس مجرد تغيير أماكن الأخبار ، تحدثت مع زملائي عن أخبار الجرائد المملة وفيلم السهرة الأجنبي المعاد خمسين مرة فليس عندنا دش ، و أحوال الشركة التي لا تسر عدو ولا حبيب ، أجريت عددا من المكالمات التليفونية الخاصة ، تبادلت نظرات ساخنة خبيثة مع زميلتي رانيا ، فأنا حريص على أن تراني أنظر لنهديها البارزين و سروالها الضيق لتعرف كم أنا مفتون بها ، كثيرا ما تغامزنا أنا وزملائي حول هذا السروال ، لابد انها تقشره عن فخذيها عندما تعود للمنزل ثم حين ترتديه فأنها تلصقه قطعة قطعة ، كنت أعلم فرحتها بنظراتنا وتعمدها اغراء المحيطين بمفاتنها القوية وصوتها الناعم وملامحها الدقيقة و بشرتها المصرية المائلة الى السمرة قليلا و قوامها المتحيز لبعض السمنة كانها شلتة أسفنجية مقسمة بدقة مثال متفاني ونجدت بضمير فنان موهوب ، تبدو بضة ملفوفة جدا متوسطة الطول ، تعتني بنفسها عناية فائقة ، كانت رانيا بحق فتاة جميلة و دلوعة أنيقة ، و الأهم من ذلك انها كانت تجيد ابراز هذا كله أمام الجميع بحرفية كاملة و خاصة أمامي ، تحاول ان تفوز بعريس من الشركة أو من أي مكان المهم أن يكون غنيا ووسيما و كامل الأوصاف ، والواقع أن فتيات الشركة جميعا كن يتنافسن تنافسا خفيا على أستمالة قلب أحد الشباب ناحيتهن فقد كنا أنذاك في مقتبل العمر ، وكنت حينئذ فتى وسيم بوجه سينمائي ، ، طويل وعريض ذو جسم رياضي ، ذكي ، أتمتع بروح الدعابة ، أو كما كن يقلن عني همسا ( دمه خفيف ) ، أحافظ على شخصية جذابة وذات حضور ، وبالطبع غير متزوج ، أنا من جانبي أعلم مدى أعجابهم الحذر بي فهن كن يخفن كثيرا ، من هذه الرجولة النافرة والمتعطشة أيضا !! كان هذا هو حالي في كثير من الوقت ، أذهب للعمل صباحا لأجلس هكذا أنتظر ميعاد الأنصراف ، فضغط العمل غير منتظم هذه الأيام.... كان كل ما يقلقني في هذه اللحظة أن يصدر الأســــــتاذ (عارف فهيم الحدق) المدير المالي فرمانا بالسهر في هذا اليوم فهذه متعته و عادته ، فهيم في البنك منذ الصباح وغالبا لن يعود اليوم ، دخل الأستاذ كامل أبو المحاسن رئيس الحسابات مسرعا يبحث عن منديله القماش الكاروه ، مشمرا بنطاله حتى الركبة ومحدثا أصوات دقات مزعجة بقبقابه تتساقط منه قطرات غزيرة من المياه بعد ان فرغ من الوضوء ، أبو المحاسن هذا كان عجيبة من عجائب الزمن فهو موديل قديم وعتيق جدا من الرجال بحيث أنه أنقرض تماما و لم يعد له شبيه ألا من بين كل الف رجل رجل ، و على الرغم من صغر سنه فلم يكن قد بلغ الثلاثين بعد الا انه كان يبدو في الأربعين من عمره أو أكبر بسبب هيئته الأثرية وشاربه وشعره الكث الخشن غير المهندم ونظارته الطبية السميكة و بنطاله الواسع جدا عليه ، الذي يبدو فيه صياد سواحلي قراري ، أو بمبوطي مهرج ، و كرشه المقلوظ البارز امامه دائما يتمايل يمنة ويسرة ، كان الأستاذ ابو المحاسن يشبه مستخدمين حقبة الأربعينيات وربما الثلاثينيات من القرن الماضي على أحدث تقدير ، أصحاب الطربوش والأكمام السوداء التي كانت تحمي أساور القمصان انذاك ، فطريقة كلامه الريفية التلقائية لم تعد مألوفة هذه الأيام و كل من يدخل عليه المكتب من خارج الشركة يدرك انه يتعامل مع شخصية من أفلام الأبيض والأسود ، فصارت تعبيراته ومصطلحاته مسارا للتندر والتعليق الضاحك بين المحاسبين ، فيما هو غير مكترث بذلك بل غير شاعر على الأطلاق بأي فجوة زمنية بينه وبين هذا العصر ، رائحة عرقه الرحالة في الحجرة تعمي الأنوف صيف شتاء ومع ذلك يصر على أرتداء نفس الفانلة البوليستر الرمادية بنص كم كل يوم ، فهى مزيج من الخل والحلبة ، حبات العرق تنزلق على ذراعه تصنع خطا لامعا قبل أن تنقط فوق الأوراق المبعثرة على سطح مكتبه ، وكأن صنبورا غير محكم الغلق مثبت تحت ابطه ، وكأنه يعتز برائحة الأشمئزاز ، وكأنها منبع عبقريته المحاسبية ، تفاءلنا خيرا حين تزوج فلابد ان زوجته سوف تجبره على الأستحمام والا فانها سوف تموت مختنقة ، لكن ذهب تفاؤلنا كمفقود استحالت عودته ، هو رجل تقليدي بكل معنى الكلمة لم يمارس اي نوع من الرياضة في حياته حتى ان مشيته تذكرني بشارلي شابلن ترتفع حقيبته الجلدية في الهواء ثم تهوي سريعة كأرجوحة المولد ، أعضاؤه لا مركزية الحركة كل عضو يمشي بمفرده ، مشجع متعصب لكرة القدم فهو اهلاوي قلبا وقالبا و محلل واعي للمباريات ، هذا هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يتحدث فيه أثناء أوقات العمل الرسمية فيما عدا ذلك فهو منكب طوال اليوم على دفتر الموردين او حركة الخزينة او مراجعة المرتبات التي كان يحبها جدا و يؤديها بمزاج ، أبو المحاسن محاسب شاطر جدا وأكثر ما يميزه الدقة وذاكرته الحاضرة وكذلك قوة تحمله للعمل وصبره الشديد عليه فهو لا يستطيع ان يجلس بدون عمل لحظة واحدة ، يخترع أي عمل ليشغل وقته ، يخاف أن يقول احد أنه يجلس بدون شغل ، وله ميزة أضافية من وجهة نظر الأستاذ عارف وهى تقبله لوصلات مطولة من القدح و الأهانات التي يكيلها له عارف فهيم الحدق و كان الأستاذ عارف يعتمد عليه بالكلية و يثق في بياناته و أرقامه فاخطاؤه تكاد تكون معدومة ، أبو المحاسن موظف حتى اخمص قدميه لذلك فهو متوافق جدا مع كل الأوضاع ، و أهم ما يعيبه ضعف شخصيته الشديد و خوفه المذهل من أي شيء وكل شيء وعلى الرغم من كونه رئيس الحسابات الا انه كان يفضل دور الرجل الثاني او رجل الظل في العمل ، فكان يقدمني عنه في مواقف المواجهات خاصة مع رئيس مجلس الأدارة ، عارف فهيم كان يستغل هذا العيب جيدا ويوظف امكانيات أبو المحاسن لصالحه خاصة وأنه من نوع الموظفين التنفيذيين الذين لا يفكروا كثيرا فيما يؤديه من عمل و انما ينفذه بحذافيره على سبيل التكرار والأعتياد كما ان طموحاته بسيطة تنحصر في اشياء متواضعة تسهل تلبيتها ، .... أخيرا وجد أبو المحاسن منديله بعد ان أحدث بركة من المياه حوله ثم أخذ يرتدي جوربه برائحتة المميزة وهو يسألني عن الساعة ، أجبته بأنها أوشكت على الرابعة ، كان أبو المحاسن يتباطء يوميا ليسهر فالسهرة سوف تضمن له ساندوتش ( فاهيتها لحم أو فراخ ) و الذي ادمنه أدمانا ، أو معشوقه الأوحد ساندوتش جمبري جامبو شهي من أحد محلات الطعام المشهورة ، فهذه النوعية من الطعام الجاهز تمثل ثورة مذهلة بالنسبة له ادارت عقله ، و فوق ذلك يحسب ساعة السهرة بساعتين وهو خير من يحسب مستحقاته بالمليم ، أخيرا لامس عقرب الساعات الرابعة نهضت مسرعا ناحية السكرتارية لأوقع بدفتر الحضور والأنصراف وأحصل على الأفراج الشرطي كما كنت اسميه ، فهو افراج لأنه يتيح لي التحرر من ربقة الوظيفة لأخرج الى رحابة الحياة وضوضاء المدينة والتسكع في شوارع وسط القاهرة ، أنساح بين الزحام متجولا بغير هدف أبحث عن شيء لا أعرفه ، ربما فرصة أو صدفة او لحظة حظ ما ، تارة أتلكأ أمام الفاترينات العامرة بالملابس والأحذية رغم أني لا أنوي الشراء وتارة أحدق في وجوه المارة ، وهذه احدى هواياتي المحببة ، تستهويني لعبة علاقات الشبه بين الغرباء واناس أعرفهم فمسألة الشبه تنطوي في نظري على اسرار ونظريات وفلسفة و حكمة عميقة ، وسيلة أروح بها عن نفسي قبل الأياب للمنزل ، أحاول ان أغير أيقاع الرتابة المسيطرة على حياتي ، و هو شرطي لأنه لا يدوم الا بعض الوقت سويعات قليلة ما ألبث بعدها ان أعود مرة اخرى في الصباح مرغما ، لنفس المكان ونفس الحجرة ونفس الأشخاص ، العمل في هذه الشركة وفكرة الوظيفة والتقوس على كرسي خلف مكتب طوال النهار تمثيلية مكررة ومحبطة لكل طموح ، أو تبشر بالمستقبل الذي كنت أحلم به وأتمناه أثناء الدراسة ، لكنها شروط الحياة و تحدياتها وفي النهاية لابد ان أعمل ، كنت لا أكف عن البحث عن الأفضل ، غير ان ظروف السوق ليست في صالحي فليس امامي سوى الأستمرار حتى يأتي الأفضل ، بمجموع 75% رمى بي مكتب التنسيق في كلية التجارة ، أنا لم أحب هذه الكلية ، مستبد جدا مكتب التنسيق هذا ، لكن ما ذنب مكتب التنسيق أنها مذاكرتي وقدراتي العقلية هى التي أوصلتني لذلك ، المهم لم يعد التفكير في ذلك مجديا الأن بعد ان تخرجت وتسلمت عملي في هذه الشركة (محاسب) على الأقل أنا أحسن من غيري الذي تخرج من سنوات وليس له وظيفة ، كذلك كان خالي الذي توسط لي لدى الأستاذ عارف دائما يقول لي حين يشعر بالبطر و السخط وقد تفشى في تصرفاتي ، أو يشكو له مني الأستاذ عارف بسبب تأخيري وغياباتي المتكررة ، كنت احسد كامل أبو المحاسن على أنسجامه النفسي ما عمله ..... هرولت ناحية الدفتر أفتش عن قلم أوقع به بينما صفاء السكرتيرة تصوب نحوي نظراتها الحادة ، قائلة بلهجة جامدة (مالسه بدري) وصفاء شخصية متسلطة بطبيعتها تستمد قوتها من كونها سكرتيرة رئيس مجلس الأدارة ، تواجه ظروفها الأجتماعية الصعبة بشخصية صعبة المراس ايضا و أسلوب متعجرف وجاف مع الأخرين خشية أن يستهتر بها البعض أو هكذا كانت تعتقد مثل كثير من الناس ، بحيث تبدو قوية أو مفترية جدا ، أنسانة ناقمة على حياتها ونصيبها من الدنيا تنظر لنفسها باعتزاز شديد و ترى انها كانت تستحق أفضل من ذلك بكثير على الرغم من تعليمها المتوسط . أستطاعت أن تتعرف على والد رئيس مجلس الأدارة في احد دور المسنين الذي كانت تعمل به ، رجته أن يتوسط لها لدى ابنه لتتوظف بالشركة ، فهى تعول أسرة فقيرة مكونة من ام واخ وأخت بعد وفاة والدها ، صفاء لم تترك واحدا في الشركة الا وفكرت في الأرتباط به ، حتى المهندس جودت نفسه رئيس مجلس الأدارة ، حدثتها نفسها به ولما لا و هى تعرف حقيقة علاقته الميتة مع زوجته ، ولما لا ومعظم أصحاب الشركات يفعلوا ذلك مع السكرتيرات سرا ، مستعدة لتتزوجه حتى ولو عرفي ، المهم أن تهرب من شبح العنوسة ، المهندس جودت أيضا أنطرح الأمر بمخيلته مرات عديدة ، لكنه تراجع خشية من العواقب الغير محمودة ، حتى صفوت زميلنا في الحسابات و بالرغم من أنه قبطي لم يمر من تحت عقلها اليائس ، حدثني صفوت ذات يوم في لحظة صدق نادرة أن صفاء أقترحت عليه أن يعتنق الأسلام وتتزوجه فليس لديها أعتراض على شخصه شريطة ان يكون مسلما ، صفوت كان على دراية بظروفها وصراعها مع الزمن ، عزف على هذا الوتر بدربة كبيرة ، أقترب منها أكثر فاكثر يغذي في نفسها الشعور بالأضطهاد و الوحدة الذي يجمع بينهما ، شعرت بالأرتياح لوجود شخص يشعر بها ويحدثها بما يدور في خلدها واهما اياها بأهتمامه ، حاول كلاهما خداع الأخر بأسم الحب الزائف ، نصب كل منهما شراكه للاخر ، هى تريد عريسا بشروطها و هو يرغب في فريسة بطعم جديد ، لكنهما أفلتا من الشراك المتبادل ، هذه القصة بينت لي سر الكراهية المتبادلة التي حملها كل منهما للأخر فيما بعد وحتى تزوجت صفاء بعدها وتركت الشركة ، صفاء تقترب الأن من الثلاثين وحلمها أن تجد أبن الحلال لكنها تستعين في البحث عنه بأسلوب منفر وعصبي يحصد المعجبين بطولها الفارع و قوامها المنحوت بمهارة فلا تستطيع ان تكون على وفاق مع أي شخص اكثر من دقائق معدودة ، بعدها يدوي الصراخ والضجيج والخناق الذي يكون مأله لغرفة المهندس جودت لتبادل الأتهامات والشكوى ، كان الرجل يتعاطف معها في البداية لكنه سرعان ما ادرك أن المشكلة تكمن فيها هى وبعض الأخرين مثل الأستاذ رمضان حسونة مندوب المشتريات ، الذي كان هو الأخر شخصية كاريكاتيرية مثل رسومات الكارتون المتحركة ، يتبع نفس المنهج الهجومي في التعامل مع الناس خاصة وأن هيئته الريفية البسيطة وملامحه الفرعونية الحادة فهو يشبه اخناتون و نحافته المفرطة مع طول قامته الواضح ونظارته المقعرة جدا تجعل كثيرا من الناس يتعامل معه بدون أكتراث ، أضف الى ذلك أسلوبه الفظ في التعامل مع الأخرين ، كل هذا يجعل منه شخصا لا يطاق ، يصطدم به كل من يتعامل معه منذ الوهلة الأولى لاسيما وأنه يتعالى على الناس كثيرا ، رمضان كان يتصور ان ظاهره المتواضع جدا سوف يجعل الناس تستخف به أيضا و كان محقا في ذلك لحد بعيد ، وبالأخص كل من يعرف قصة تعيينه في الشركة لذلك كان يتعامل مع الناس بكبرياء مصطنع ، بالأضافة لأنه يعتقد انه أديب موهوب و مثقف حتى النخاع و انه من نفس قماشة نجيب محفوظ و يحى حقي واحسان عبد القدوس ، يؤمن بأنها ليست ألا مسألة وقت وينشر عمله الأدبي الأول ، يواظب على حضور الندوات الثقافية والتردد على مقاهي المثقفين ومجالستهم ، يفتخر بانه جلس مع فلان الصحفي المشهور وفلان الكاتب في مجلة كذا ، مثله الأعلى بلدياته الشاعر محمد عفيفي مطر فهو مولع به وبأعماله ، حريص على مقابلته بانتظام و عرض محاولاته الأدبية عليه ، معتبرا أياه الأب الروحي له ، الأستاذ كان ينصحه دائما بالتريث وعدم التسرع و ان موهبته لم تنضج بعد ، ويبدو ان الأستاذ عفيفي مطر حينما قرأ محاولات رمضان الأدبية لم يجد فيها ما يبهره او ينبأ بموهبة حقيقية يمكن ان تلفت الأنظار وسط هذا الخضم المتلاطم ، ولكنه لم يشأ ان يحبطه ، لقد حذره الأستاذ كثيرا من هذا الطريق ومشاقه ونبهه أن الأدب مثل عشيقة عاشقة لا تحب شريكا معها واذا اراد ان ينجح فيه فلابد أن يضحي بما دونه ويتفرغ من أجله ، رمضان كان بين شقي رحا فالوظيفة هامة بالنسبة له بدخلها الثابت و الأستقرار الذي وفرته بعد شقاء ظل يطارده لسنوات ، والأدب والكتابة هما الأمل في التخلص من عبودية الوظيفة وقيودها لكن الأستمرار في الأثنين سوف يضيع كلاهما معا ، لم يكن رمضان مستعدا للتضحية ، لن يترك الوظيفة ولن يترك الحلم سوف يحاول جاهدا ان يستمر فيهما معا ، لذا ظل رمضان يدور في حلقة مفرغة ، يراوح مكانه طوال عشر سنوات ، كان كثير القراءة بنهم شديد رغم ضعف بصره ، لديه مكتبة كبيرة ويشتري كتبا كثيرة كلما سنحت الفرصة ، لكنها تبدو صعبة جدا وتحمل عناوين غريبة ومتعمقة في موضوعات متخصصة للغاية في النقد وعلم النفس و الشعر ، ربما كان يجيد اختيار الكتب و قرائتها لكنه أبدا لم يجيد فن التعامل مع الناس ، تعرف رمضان على المهندس جودت رئيس مجلس الأدارة عن طريق صديق جودت أسمه منصور جريشة وهو رجل تامين محترف ، كان رمضان مندوب مبيعات يجوب المنازل والشركات ليسوق بعض المنتجات ، وأثناء جولته بشركة التامين تعثر في منصور جريشة ، كلاهما كان يبحث عن الأخر ، جريشة كان يبحث عن شخص يهديه لصديقه جودت ليقوم بالمهام الشاقة في الشركة الجديدة بمرتب زهيد لأن الشركة ناشئة حديثا و رمضان كان يبحث عن عمل مستقر ينقذه من المبيعات وعملها المرهق الشبيه بالتسول ، رأيه أن كلمة مندوب مبيعات هى الوصف العصري لمهنة بائع سريح ، و هكذا وجد كل منهما ضالته في الأخر ، حين شاهده المهندس جودت اول مرة أعترض عليه أعتراضا شديدا وحاول التخلص منه ، فكان يأمر الساعي أن يصرفه من المكتب بهدوء ، كانت هيئته رثة جدا و رائحة الفقر الممزوجة بالعرق تفوح من ملابسه الباهتة ، لكن رمضان لم يكن ليضيع الفرصة من بين يديه ، أصر على الذهاب يوميا للشركة وأنتظار المهندس جودت ، وعرض نفسه عليه ، بل و فرض نفسه على المكان فرضا ، فالشركة في حي الزمالك والبناية جميلة والمكتب مكيف والمكان عذب و نابض بحياة مترفة ، المبيعات ليست عمل رمضان الأول في القاهرة بل سبقته أعمال كثيرة في مقهى بلدي ثم في محل كشري فهذا هو المتاح في هذه البلد لشخص معدم و قادم من الأرياف مؤهله بكالوريوس خدمة أجتماعية ، وبالتالي عندما تتلالاء في الأفق فرصة مثل تلك فلابد من التشبث بها حتى الرمق الأخير ، المهندس جودت رجل يشبه الأتراك في شكله وهيئته المهيبة فهو رجل طويل جدا وجهه ابيض مشوب بحمرة عينه تميل للزرقة ولها لمعة الذكاء والفطنة ، هيبته وهيئته الفخمة توحي بشخصية قوية و ثقة في النفس لا حدود لها ، كل هذه المظاهر تجعل من الرجل شخصية جذابة للعمل معه فمثل هؤلاء الأقوياء يحتاج رمضان وأمثاله لأن يحتمي فيهم و ينضوي تحت ظلهم الظليل ، أبدا لا يجب ان تتفلت هذه الفرصة بأي حال هكذا كان رمضان يحدث نفسه ، حتى وافق الرجل بصعوبة ان يعينه مندوبا للمشتريات ولا يزال عبد الله العتر الساعي يذكره بهذه الأيام كلما تشاجر معه قائلا له : أنت نسيت كرسي الحمام اللي كنت بتيجي تقعد عليه ونمشي فيك مش عاوز تمشي ، و الحقيقة أن منصور جريشة أقنع جودت بأن هذا هو انسب شخص لطبيعة العمل فهو حمار شغل بمرتب تافه ولن يعترض على أي نوع من العمل ، كما أنه بهذه الهيئة يمكن ان يأمنه على خصوصياته وعلى شئون البيت و أحتياجات الأسرة الخاصة ، دائما ينعي رمضان حظه العثر ويرثي واقعه المؤلم وتاريخه الحافل بالمشقة والمرض ثم يحمد الله على كل حال ..... بينما ههممت للخروج من باب الشركة قابلني الأستاذ فهيم عارف الحدق المدير المالي قادما من البنك وهو ينادي على أحد السعاة ليأخذ منه الحقيبة وعدد من الأكياس التي كان يحمل فيها اغراضه الخاصة من طعام ودواء وأشياء أخرى غير معروفة ، انها مفاجأة غير سارة ، فهيم يعرفني جيدا لأنه سبب تعييني في هذه الشركة ، فهو صديق شخصي مقرب لخالي المحامي المعروف بالمدينة التي نسكن فيها معا، مدينة البدرشين ، و على الرغم من ذلك فأن فهيم لا يحبني و لا يثق في اطلاقا ، وقد ساعد على ذلك طبيعته المتشككة في كل من حوله وعلاقته السيئة برئيس مجلس الأدارة المهندس جودت ، فهو يعتقد ان جودت رئيس مجلس الأدارة نجح في استمالتي لصفه والسيطرة علي ليستخدمني ضده ، فهيم كان يشعر انه تورط في ألحاقي بالعمل معه ، ولولا خالي وعلاقات المصالح لكان أستغنى عني منذ البداية ، وهو لم يشعر بالندم في أي وقت مثل شعوره به حيال مساعدته لي للتوظف في هذه الشركة ، أنا أيضا لم أحب هذا الرجل منذ اليوم الأول فهو عصبي وسريع الغضب وديكتاتور في مكانه ، يحب المظهرية كما انه لا يعرف معنى حد الجميل ، هو يريد دائما أن الهج بكلمات الفضل والثناء عليه لأنه وفر لي فرصة عمل كما لو كان وظفني في مجلس الوزراء مثلا ، وأكثر شيء جعلني أمقته و أبصقه من نظري هو سرقة مجهود مرؤسيه و نسبته لنفسه بحيث يكون شمسا ساطعة و يبقوا هم تحت الطين العطن كعلقة الصيد ، أتفق فهيم منذ البداية مع المهندس جودت أن فريق العمل معه يكون من أختياره وبمعرفته ووافقه جودت من باب أبداء حسن النية له ، كان فهيم يهدف من ذلك أن يأتي بمجموعة من عديمي الخبرة ومن يسهل السيطرة عليهم ليشكلهم على هواه لذلك أختارهم من معارفه الشخصيين ، لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن وجدني شخصا غير قابل للطي وأكبر من أن يستوعبني أبطه العفن ،، لا أعرف كيف أدير أموري بحكمة و كياسة تجنبي الأرتطام بشخصية صدامية مثل عارف فهيم ، كنت أنذاك رخوا بعض الشيء وليس لديي هدف من العمل ، فكرتي عن العمل أن أذهب في التاسعة وأرحل منه في الرابعة ، في شخصيتي نزق الهواة و رعونة غر متهور وخفة تنطوي على الأندفاع بدون حساب ، كل مؤهلاتي أني ذكي ولماح لكن بدون أي خبرة لم أتعلم شيئا قبل دخول هذه الشركة ، ثم ما لبثت ان أكتسبت خبرة المهنة من المحيطين بي و خاصة صفوت وكامل فقد تعلمت منهما الكثير ، وكثيرا ما شبهني جودت بزميلي صفوت قائلا لي أنني النسخة المسلمة من صفوت في عدم الألتزام و عدم الشعور بالمسئولية... أنقضت السهرة وتناول كامـــــــل ( كومبو) الجمبري الجامبو اللذيذ في سعادة غامرة لا يضاهيها اي شعور أخر بالنشوة فقد كان يتحمل أي شيء ما عدا الشعور بالجوع ، عندها ينهار تركيزه و تخور قواه ولا يقوى حتى على الكلام ثم يفقد اعصابه ، و كامل حين يأكل يختلف عن أي أنسان أخر لأنه يصدر من فمه صوتا يشبه صوت الأقدام حين تلامس حافية أديم أرضية زلقة ، عبارة عن طرقعات عالية أثناء المضغ تشبه التشدق بعلكة لدنة و هو يضغط على الساندوتش بكلتا يديه ضغطة خانقة تجعله يفيض في يديه بمحتوياته السائلة بصورة مقرفة تصيب الجميع بغصة بينما هو منهمك غير عابىء وكأن الأمر لا يعنيه ، يلحس اصابعه في تؤدة مستمتعا ، اصطحبنا الأستاذ فهيم أنا وكامل في سيارته ليوصلنا معه للبدرشين ، بعد يوم عمل طويل وحافل ، لكن الكلام عن الشركة لا ينتهي ، فهيم يواصل الحوار في السيارة ، نظرته التشاؤمية غالبة على رؤيته لمستقبل الشركة في ظل وجود جودت على رأسها ، لم يتوقف عن الكلام وهو يحث كل منا على البحث المستمر عن عمل بديل وعدم الركون لهذا العمل ، بينما كامل يؤمن على كلامه ويوافقه في كل شيء ، عدم المعارضة صفة يحبها فهيم جدا في كامل بينما جلست في الخلف ألوذ بالصمت لم أعلق ، ظن فهيم أني لا أوافقه لذلك بين لحظة وأخرى يسألني (والا أيه يا أستاذ رشدي) ، أؤمن على كلامه لأني أريد لهذه الصحبة الكئيبة ان تنتهي سريعا فأقول له : ( لا طبعا عندك حق يا ريس) ، سيطر الصمت على السيارة ، كامل غط في نوم عميق ، بينما أنظر من الزجاج الى لا شيء و فهيم قابضا على عجلة القيادة يجرح الصمت بين الحين والأخر بنفخة قوية من أعماق صدره ، تشق سيارته ( البلونيز) البيضاء ظلام الليل الدامس حتى وصلت ونزلت أنا و كامل بينما لا يمل عارف من تكرار وصيته لنا بعدم التأخير غدا .
الاثنين، 1 يونيو 2009
الكنبة
خمسة شهور مضت منذ ان انهيت الخدمة العسكرية ، وها أنا ذا ما زلت بدون عمل ، أقضي معظم أوقاتي قابعا بالمنزل متسمرا أمام التلفاز حتى الساعات الأولى من الفجر ، ثم انام لأستيقظ قبيل أذان العصر ، بعد سهرة صباحي كل يوم يكون مكاني المفضل للنوم ، هو الكنبة الأستوديو الملحقة بحجرة الصالون فهى طويلة وعريضة ومريحة جدا ، أفضل النوم عليها عن أي سرير منذ سنوات ، فهى تمنحني شعورا بالدفء والأحتواء والأمان ، و يعودني النوم عليها سريعا عميقا هادئا دون تردد ، ، أطلقت عليها امي كنبة رشدي نسبة لي ، وهى واحدة من ثلاث كنبات كانت ضمن جهاز والدتي ، الكنبات بحالتها بعد أكثر من عشرين عاما بفضل محافظتنا وعناية أمي الفائقة ، عمل كسوة سنوية جديدة لهن في العيد الصغير هو تقليد أسري ثابت ، أصبحت هذه الكنبة هى عنواني الحقيقي في البيت ، وهى محور رئيسي في أي حوار معي من أفراد الأسرة ، رشدي فين ؟ هايكون فين يعني نايم على الكنبة ، أعمل حاجة بدل ما انت نايم على الكنبة طول النهار كده ، وهكذا .... ، ثم قفزت شهرتها من نافذة بيتنا لتصل لأصدقائي وأقاربي ، فكل من يتصل بي يقال له أن رشدي نايم ، فيأتي سؤاله التلقائي .. على الكنبة بارده ؟، وأيام الدراسة في المرحلة الثانوية ثم أثناء الجامعة كانت مذاكرتي أنا وزملائي في هذه الحجرة سرعان ما تنتهي في بداية الليل ، لنبدأ نصب دوري الشطرنج فوق الكنبة ، وحين ننتهي مع زقزقات صوت الفجر وقد انهكنا السهر ، يفترش كلانا او ثلاثتنا أرائك الصالون ، اخص نفسي بكنبتي العزيزة ، هذه العلاقة الخاصة بيني وبين الكنبة توطدت جدا في شهور البطالة لأنني كنت انام عليها لأكثر من خمسة عشر ساعة متواصلة يوميا ، أعايش كوابيس وأحلام شتى ، لم أخوض من قبل تجربة البحث عن عمل ، فأنا لم أتعود هذه الكلمة ولم يشعرني احد بأني في حاجة اليه ،، لم يسبق لي العمل في أي مكان من قبل حيث كان يرى والديي ان مهمتي في هذه المرحلة هى التعليم فقط ، كذلك فأن البيئة التي نشأت فيها هى عبارة عن مدينة محدودة يغلبها الطابع الريفي ، كما انه لم تتاح لي الفرصة لأتعامل منفردا مع كثير المواقف و أحداث الحياة التي مرت بي ، كان دائما والدي قريبا مني يحل لي كل المشكلات ويذلل لي كل العقبات ويجري الأتصالات اللازمة لتسهيل الأمور لي ، لذلك كنت مستسلما للكنبة ، لا أشعر بأي قلق من طول فترة أستلقائي عليها ، و ما حاجتي للعجلة في البحث عن عمل وانا أحصل على مصروف شهري جيد ، أفضل من أي مرتب من المفترض ان أبدأ به ، كما اني على يقين من الألتحاق بأي عمل أن أجلا أو عاجلا ، أن هى الا مسألة وقت ، فلابد أن يصيبني دور البطالة مثل كل الناس ، فهو دور لابد ان نعاني منه مثل الحصبة والجدري و التيفود ، كما ان العمل اليوم يحتاج لواسطة ومعرفة وعلاقات ... ألخ ، ثم هددني والدي في الشهر الخامس بقطع المصروف عني اذا لم أتحرك و ألتحق بأي عمل حتى ولو بدون اجر على سبيل التدريب ، لمجرد الخروج من المنزل و الأبتعاد عن النوم وهذه الكنبة اللعينة ، بل وصل به الأمر الى حد التهديد في لحظات الغضب بتحطيمها او بيع الكنبات الثلاثة !! ، خرجت لا أعرف ماذا أفعل كيف ادخل الشركات وأعرض نفسي ، و كيف سيقابلني الناس هناك ، رأيت اوراقي تلقى بسلة المهملات و انا التفت خارجا ، توزيع الأوراق على الشركات بهذه الطريقة فكرة فاشلة ، ما لم تكون في حاجة فعلية لموظفين ، رغبتي في العمل بمؤهلي هو حلم بعيد المنال كنجوم السماء ، تابعت أعلانات الجرائد ، أخرج في الصباح تشيعني لعنات والدي وشتائمه المنتقاة بعد أن يوقظني بشق الأنفس ويسحبني من فوق الكنبة ، أشتري الأهرام قبل ان أقطع تذكرة المترو من محطة المنيب وعلى المقاعد الرخامية المستطيلة والمظللة بالمحطة أجلس أتصفح الجرنال باحثا عن وظائف خالية لا تحتاج لسنوات خبرة في المحاسبة ، معظم الوظائف المتاحة مبيعات ، أخيرا وجدت عدة وظائف في المحاسبة ، تقدمت اليها برغبة ملؤها التفاؤل ، غير ان عدم الخبرة و السكن على بعد مسافة طويلة حيث أقيم في البدرشين ، دائما يحولا دون الفوز بفرصة مناسبة ، مع مرور الأيام و دون كوة ضوء تبدد هذه الظلمة ، يئست وعدت أواقع كنبتي ، أزعم انني أنتمي للطبقة المتوسطة والديي من الموظفين أصحاب المرتبات الشهرية ، كنت وحتى سن الثامنة عشر من عمري مصابا برهاب الأبتعاد عن المنزل أو الخروج خارج حدود المدينة بمفردي دون أبي أو أمي ، يخيل لي أني لن أستطيع العودة ، فربما اقابل قاطع طريق يقتلني بغير جناية أقترفتها أو ربما أضل طريقي أو ربما تضيع نقودي فلا أستطيع دفع قيمة المواصلات ، ربما و ربما ، غربان من خيالات سوداء تحوم حول رأسي ، اذكر أيام ان كان يقتادني أبناء عمومتي و أخي الأصغر كأضحية تساق عنوة لمرآب سيارات الأجرة في أوان الأعياد ، لنسافر لحديقة الحيوان أو سينما فاتن حمامة أو وسط البلد لنلهو في اجازة العيد مثلما يفعل الصبيان ، ما ان نصعد السيارة كنت ألتمس الفرصة السانحة حتى أنفلت منهم فأغافلهم و اهبط من السيارة أعدو هاربا ، أقضي الأجازة وحيدا مستمتعا بالجلوس امام التلفاز أو قراءة كتاب ما أو نائما لفترة طويلة على الكنبة أياها ، المهم ان اكون في البيت ، فهناك يتكاثر بداخلي الشعور بالأمان ، دائما انظر بأعجاب شاهق لشخصية أسامة بن زيد حين ولاه النبي (ص) امارة الجيش على فطاحل الصحابة وهو ابن السابعة عشر من عمره ، فتى يقود جيشا في حربا ضروس حقيقية فيها ما فيها من القتل والموت أي اقدام وشجاعة تلك ، اي أناس كانوا هولاء ، أين أنا منهم ، أول مرة أخوض فيها أمتحان الخروج بعيدا عن المدينة مجبرا حين دخلت الجامعة في القاهرة ، كان لا مفر حينذاك من ان اذهب بمفردي ، أنست عددا من الطلاب من نفس مدينتي أروح وأجيء معهم لأغازل الطمأنينة ، ويوم ان أختلفت محاضراتنا و أضطررت للعودة بمفردي لعبت الأقدار لعبتها حتى يوفقني الله لأجد سيارة خالي المسروقة ، والتي كان يسافر بحثا عنها في كل محافظات المحروسة ، يقول له فلان انه شاهدها في بني سويف فيذهب ويقول له أخر انه لمحها في أسيوط فيترك تجارته وحاله ويذهب ، كنت مشفقا عليه جدا وحزينا من أجله لعلمي كم يكدره هذا الأمر ، ليس من اجل السيارة وقيمتها فحسب ، ولكن العيبة الكبيرة التي لحقت به أن يسرق من هو مثله ، ففي بلدتنا الشبه ريفية تلك ، حيث العائلات الكبيرة لها مهابتها وكيانها وسطوتها و حدودها ، يعد هذا الأمر مخزيا أن فلان أبن فلان من العائلة الفلانية سرقت من عنده سيارة ، كان يؤلمه هذا الأمر للغاية و يغيب عن وجهه أشراقته المعهودة وسماحته التي يتصف بها و أبتسامته البيضاء ، يومها خرجت أمام الجامعة أنتظر أتوبيس البدرشين رقم ( 121) لكنه تأخر ، قررت ان أمتطي بساط الشجاعة مرة من نفسي وأركب أتوبيسا للجيزة ثم أأخذ ميني باص البدرشين من هناك ، جاء اتوبيس (810) المتجه للعمرانية تخيلت له خط سير في رأسي يوافق مآربي منه ، ظني انه سوف يدخل العمرانية من الكوبري الملتوي في شارع ربيع الجيزي بساقية مكي وبذلك يمر على مجمع مصالح الجيزة فهناك أنزل في المحطة حيث تربض أمامه سيارات البدشين ، غير أن الأتوبيس غدر بي و دون توقف زحف بسرعة تحت نفق نصر الدين ثم شارع الهرم عندها انغرزت مخالب الأرتباك والخوف في قلبي ، طفقت أبحث عن مخرج ألقي بنفسي منه قبل أن يوغل الأتوبيس في شارع الهرم ، مررت بجهد شاق وسط الأجساد المعلقة كالطيور المذبوحة في عمود مثبت بسقف الأتوبيس اتجاهل كلمات الزجر و النهر والزمجرة من الواقفين ، أخيرا القيت بنفسي اول شارع الهرم بعد النفق مباشرة رغم ان الأتوبيس كان سوف يلف ليدخل العمرانية من شارع ترعة الزمر لكن أنى لي أن أعرف ذلك في حينه ، عبرت الشارع ثم سرت متململا بين العمرانيتين الشرقية والغربية من جهة الشرقية ، بمحاذاة ترعة الزمر التي تقطعهما ، بعد قرابة مائة وخمسين مترا كنت اطوح عيناي في تفريعات الشارع الجانبية أتخير من بينها تفريعة قريبة أتسلل منها للجيزة , واذا بالسيارة على مبعدة مني في شارع جانبي خلف سور ادارة غرب الجيزة التعليمية مائلة فوق الرصيف كسفينة جنحت بفعل رياح عاتية ، يا ألهي .... أنها هى فعلا السيارة رقم 26204 نقل جيزة داتسون حمراء ، انها هى بالفعل سيارة خالي ، مغلفة بطبقة متجلدة من الأتربة الصلدة تكاد تطمس لونها ، أوشك أن أحتضنها بلهفة كحبيبة طال غيابها ، مسحت زجاج الكابينة لمحت بداخلها مقص حدادي عملاق ، فهمت أن السارق أرتكب بها سرقة ما ثم خلى سبيلها وهرب ، كان جليا أن وقفتها المحزنة تلك أستمرت منذ أيام طويلة ، فلا خوف ان أتركها كما هى لساعتين وأعود بسرعة للبلد حتى أزف البشرى لخالي وأولاده ، حين وصلت سألت عنه قيل لي أنه في الصعيد يبحث عن السيارة حيث شاهدها احدهم هناك ، قلت لولده بفخر وجدية انا وجدتها في العمرانية ، عدت اليها بزفة كبيرة من السيارات و الأهل والأقارب ، حين قصصت عليهم قصتي هذه فيما بعد ، تلقفها المرجفون بكثير من الريبة ، تحولت عيونهم لمدافع تطلق رصاصات الأتهام والشك ، فكيف لشخص طويل عريض مثلي أن يتوه في المواصلات بالجيزة بهذا الشكل ، شخص جامعي ومتعلم ، لم يكن احدا مستعدا لتصديق روايتي سوى خالي لأن في شخصيته نزعة أيمانية صوفية تفسح مجالا واسعا للقدر و تصاريفه ، ولثقته العميقة في معدني وسلوكي ، نزلت ابتسامته مرة أخرى تغرد على شفتيه بأمتنان ، و خلال سنوات الجامعة بذلت جهدا عاليا لأعالج نفسي من الرهاب الذي سجنت بداخله لسنوات طويلة ، لكن بعد أن ترك في نفسي اثرا عميقا جدا ، فقد طالت معي الطفولة الى ما بعد العشرين وأعيش مراهقة الشباب وانا في الثلاثينيات و اتوقع ان أصل لمرحلة النضوج في الأربعينيات بعد عدة سنوات من الأن ، دائما عمري يسبق عقلي وتفكيري ، لا أحب المواجهة والحسم ، أفضل الهروب والأرجاء ، أعيش على احلام اليقظة والأوهام وحين سعى لي خالي في الحصول على وظيفة عن طريق احد اصدقائه ، كان ذلك بناءا على توصية خاصة من والدتي ، شوف له حاجة لحسن الكنبة خدت من جسمه راق ، ونزولا على رغبتها و اشفاقا علي من هذه الكنبة المظلومة ، أوجد لي خالي فرصة عمل بشركة مقاولات في الزمالك ، يعمل فيها صديقه المدير المالي هناك الأستاذ/ عارف فهيم الحدق ، وبعد ان توظفت بزمن طويل ، ظلت والدتي في كل مناسبات الأستفسار عن أحوالي من الأهل والأقارب والمعارف : رشدي عامل أيه ، تقول لهم الحمد لله ، ربنا كرمه وأشتغل بعد ما قعد خمس شهور نايم على الكنبة !!!
الأسلام وتوزيع الثروة (2)
بالرغم من أهتمامه بتوزيع الثروة بين المسلمين وعدم قصرها على فئة بعينها ، أقر الأسلام بأن المساواة التامة لن تتحقق وانهم سوف يظلوا فوق بعض درجات وذلك ليحترم السعي والأجتهاد من بعض المسلمين دون بعض ، النابع من الفروق الفردية بينهم في الجهد والعرق وكذلك ليعمل مشيئة الله و حكمته في ان يكون هذا غنيا مترفا بينما شقيقه فقيرا معدما ، لكن قضية المقاربة بين هذه الطبقات كانت شغل هذا الدين باعتبارها قضية حاكمة لأمن المجتمع ، وصيانة للعلاقة الطيبة بين المسلمين من آفات الحقد والحسد ، ولذلك أمر النبي (ص) المسلمين"من كان عنده فضل زاد فاليجد به على من لا زاد له و من كان عنده فضل مال فاليجد به على من لا مال له ومن كان عنده فضل دابة فاليجد بها على من لا دابة له " لكن معنى الحديث و غيره من الأحاديث والأيات التي تحتكم لأرادة المسلم في فعل الخير ، كان قابلا للتطبيق في عصر النبوة و الخلفاء حين كانت النفوس عامرة بالأيمان و المشاعر مفعمة بطاعة النبي في فجر الأسلام وضحاه بينما تغير الحال بعد تراجع الحضارة الاسلامية ، ولذلك امر الله نبيه (ص) بقوله (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم) ، وهو أمر الهي خطير لمحاربة الفقر في المجتمعات الأسلامية ، لأنه من أغنياء المسلمين من لا تطاوعه نفسه لدفع صدقة متناسبة مع حجم ثروته مكتفيا بما يؤديه من زكاة ، أو حتى قد لا يؤدي الفرض ، بينما المجتمع يمتلىء بالفقراء الذين يشكلوا ظاهرة يصعب على الحاكم معالجتها من موارد الدولة ، لذلك منح الله حكام المسلمين هذه الاداة وامرهم بأن يقطتعوا من أموال الأغنياء ما يسد حاجة الفقراء ، ليعتدل الميزان لأقصى درجة و ليرفع الحرج عنهم حين يفعلوا ذلك ، باعتبارهم يفعلوه تنفيذا لأمر الهي وليس من تلقاء انفسهم ، فحقيق بالحكام تطبيق المنهج الألهي القويم ، بعد عجز النظريات الوضعية لايجاد حلول منجزة للأزمات العالمية.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)