الخميس، 11 يونيو 2009

الوافد الجديد


الوافد الجديد
فرغ جودت من جولة الصباح الرياضية في شوارع الزمالك التي كان عاشقا لها وللأقامة فيها ، كان فخورا انه من سكانها ويرى ان في ذلك رمزا للعز وتكريسا لشعوره الطبقى بالتميز والسمو ، حتى شركته الصغيرة كانت في شارع اسماعيل محمد بالزمالك ، و شركته الكبيرة تلك في شارع عزيز اباظة بالزمالك ايضا ، لا يحب الخروج منها كثيرا الا الساعات التي يجلس فيها بمركب القراصنة بالجيزة ثم يعود للزمالك ، صعد لشقته بعد جولة حول حديقة الأسماك القريبة من منزله، كانت الساعة الثامنة والنصف صباحا عندما دق هاتفه المحمول ، فزع جودت فالمتصل هو الدكتور اسماعيل شامل ، رد بنبرة متذللة (أيوة يا أفندم) رد الدكتور بكلمات مقتضبة وامره بالحضور له في الساعة الحادية عشر ثم أغلق الخط ، بدا القلق مسيطرا عليه لماذا يريده الرجل ، كثيرا ما ذهب بناءا على طلبه وجلس في انتظاره لساعات ثم يخرج مدير مكتبه ليقول له الدكتور لن يقابلك اليوم فالتأتي غدا ، كلما اتصل به الدكتور يظل يضرب اخماس في اسداس حتى تنتهي المقابلة ويعرف سببها أستعد جودت للميعاد ثم توجه لمكتب الدكتور متوجسا ، جلس عدة دقائق قبل أن يؤذن له بالدخول ، كان الدكتور يطالع بعض اللأوراق امامه ، لم يلتف الى جودت أو يرد عليه حين ألقى السلام، ظل جودت واقفا في شبه أنحناءة ، ثم طلب منه الجلوس وهو ما زال يقرأ الأوراق ، بقي الصمت حاكما للمكان قبل ان يغلق الدكتور الأوراق امامه و يعتدل في جلسته على الكرسي الوثير الضخم متراجعا للخلف ، يشعل سيجارا كبيرا ، وهو يخاطب جودت بهدوء متسائلا عن أخبار الشركة ، ويجيب جودت بكلمات قليلة و صوت مرتجف ، يلقي الدكتوراليه بملف يحوي أوراق شخص ما وهو يطلب منه أن يضيف هذا الشخص الى المساهمين بالشركة بنسبة معينة ، يبدي جودت دهشته بأدب شديد ويسال الدكتور هل سدد الرجل حصته ، أخبره الدكتور انه تلقى حصته نقدا وانه باع جزء من حصته لهذا الشخص مقابل مليون جنيه ، ثم قام الدكتور واقفا في اشارة لأنهاء المقابلة ، نهض جودت بسرعة ومد يده منحنيا ليصافح الدكتور ثم اخذ الأوراق لكنه قبل ان يخرج أخبره الدكتور ان المساهم الجديد مهندس سوف يعمل بالشركة بمرتب بالأضافة لمساهمته وعليه ان يضعه في مكانة ملائمة ، خرج جودت ترجرجه الحيرة وينغصه القلق فما سبب هذه الخطوة وهل وصل للدكتور اي شيء سيء عن جودت ، هل الدكتور يحاول ان يوجد بديلا له ليتخلص منه ، أسئلة كثيرة تنهش في عقله بشراهة ، فهو يعلم ان الدكتور مزاجي و متقلب ومثله من الممكن أن يفعل اي شيء في اي وقت مع اي أنسان مهما كان ، اتصل جودت بمنصور جريشة و طلب منه مقابلته فورا ، أتفق الأثنين على اللقاء في منزل منصور على الغداء ، وحول سفرة عامرة بالأطباق التي يحبها جودت وعلى رأسها كشك الألماظية وصينية القرع العسلي وقفت زوجة منصور ترتب الطعام بينما جلس الأثنين على مقربة منها يتهامسا ، كان منصور يحاول أن يطمئن صديقه ويدعوه لعدم الأستعجال في تخمين مغزى هذه الخطوة وأنها ليست بالضرورة موجهة ضده ، قطعت الزوجة كلامهما ليتناولا الطعام ، جلس جودت شاردا رغم أن طعامه المفضل يناديه برائحة شهية لا تخطئها حواسه ، غير أن خاطره ملبد بمفاجئة الدكتور ، ولا سبيل الا انتظار ما سوف تكشف عنه الأيام القادمة .. حاول جودت و هو يقلب الأوراق التي اعطاها له الدكتور أن يفهم أي شيء من بين السطور ، الرجل اسمه المهندس طاهر صابر يصغر جودت بسنوات قليلة ، لكنه لم يستطيع ان يستشف أي شيء من الأوراق ، في اليوم التالي حضر المهندس طاهر صابر لمقابلة جودت واستلام عمله الجديد ، قابله جودت بحرارة شديدة وحفاوة و دار بينهما حديث ودي حرص جودت ان يبدو لطيفا ومريحا كعادته في بداية كل تعارف ، فسأله عن المكان الذي يحب ان يعمل به ، هرب طاهر من السؤال ولم يحدد شيئا ، كان كثيرا ما يستخدم مصطلحات انجليزية ويحاول الحديث عن امور بعيدة عن العمل ، انتهت المقابلة دون ان يعرف جودت اي شيء غير انه عرف طاهر على المكان في جولة سريعة وعلى الموظفين في كل أدارة ثم ارشده لمكتبه ، طلب طاهر مهلة للتعرف على الشركة جيدا ، في اليوم التالي احضر معه حقائب كثيرة مملوءة بالكتب في مجالات مختلفة زين بها مكتبه ، ثم بدأ يمارس مهام عمله فاخذ يطلب بيانات و معلومات من الأدارات المختلفة ، ظل جودت يتابعه من بعيد و أعطى تعليمات بأن تجاب كل طلباته وأن يأخذ كل ما يحتاج ، بعد عدة أيام بدأ أمر طاهر ينكشف شيئا فشيء من خلال أسئلته وتعليقاته على الأوراق والبيانات التي طلبها ومناقشته لها مع المهندس جودت و خاصة ما يتعلق منها بتخصصه و عمله كمهندس ، جودت كان رجل محظوظ لدرجة ان الحظ يلاحقه في كل شيء ، حتى في الموظفين الذين يعملوا عنده و حتى الشركاء ، الدنيا كانت لا تزال مقبلة عليه بكل بهاءها و كلما سارت الأمور على هذا النحو كلما أزداد هو جبروت و غرور ، تبين له أن طاهر هذا ابيض تماما في كل شيء ، لا يعرف شيئا عن الادارة ولا عن الشركات وأخر شيء يمكن ان يفهم فيه المهندس طاهر هى الهندسة ، أقصى ما يعرفه بضعة مصطلحات أنجليزية جوفاء ، يمكن ان تتحدث معه في موضوع لتجده شرد بعد لحظات وذهب بعيدا جدا ولا يعود الا عندما تشرف على الأنتهاء من الكلام ليطلب منك الأعادة مرة ثانية ، أسئلة طاهر ومناقشاته و أستفساراته التي كان يحشدها لجودت أظهرت ان الرجل هو اي شيء اخر غير ان يكون مهندسا ، طاهر صابر والده مستشار كبير بالقضاء وشخصية مرموقة في المجتمع تجمعه صداقة بالدكتور اسماعيل شامل ليس له اولاد سوى طاهر الذي أحتار فيه ، طاهر لم يصلح في أي عمل تم الحاقه به ، فهو انسان مرفه جدا يعتمد على غنى والده وثروته ، يذهب للعمل كل يوم بعد الظهر لأنه يسهر حتى الفجر في الملاهي والكازينوهات يحتسي الخمر والسجائر الملغمة بالحشيش من اجود الأنواع ورغم انه متزوج وله اولاد ، غير أن له العديد من العلاقات النسائية مع رواد هذه الأماكن واللأئي كن يجدن فيه صيدا ثمينا ، معلوماته ضحلة جدا وخبرته صفر كبير ، لم يحاول أن يتعلم أو يكتسب اي مهارة ، تعب الوالد كثيرا من أبنه فكل شركة يعينه بها يتم الأستغناء عن خدماته قبل ان يكمل فيها شهرا ، تأكد الرجل بخبرته أن أبنه لن يصلح موظفا في أي مكان بسبب سلوكياته الغير محسوبة ، كذلك لا يستطيع ان يؤسس له مشروع خاص لأن شخصيته لن تصلح أيضا في ذلك وسوف تكون النتيجة المتوقعة ضياع المال هباءا ، كان الحل أن يستفيد الرجل من علاقاته برجال الأعمال الناجحين في ان يدخل ابنه شريك مع أحدهم ، حتى يعمل في الشركة بصفته مساهم و موظف في نفس الوقت اي يعمل (بفلوسه) ، فطلب الرجل من الدكتور اسماعيل شامل أن يقبل ابنه طاهر شريكا بأحدى شركاته و أن يعلمه أصول البزنس ، الرجل في قرارة نفسه كان يشعر بالحسرة ويعلم ان ابنه لن يستمر ولن يصلح ، في كل مرة يعده طاهر بانه سوف يكون عند حسن ظنه ولن يخيب امله فيه لكنه لا يستطيع ان يلتزم أكثر من عدة أيام ثم ينهار امام أحتياجاته المزاجية و يستسلم لهذه الرغبات فيضحي بكل شيء ، أستغل جودت الوافد الجديد الذي قدمه له الدكتور على طبق من فضة ، فقرر أغراقه في مسئولية العمل لتركيعه و السيطرة عليه لأنه من المؤكد سوف يخفق و تهرب الأمور من بين يديه لعدم الخبرة و حين يرسب كما هو متوقع يكون ضعيفا امام جودت يحركه على هواه ، لقد قضت المكيفات على عقل طاهر تماما فلا يفيق الا من أجل ان يعود لغيبوبته مرة ثانية ، كثيرا ما كان يغلق عليه مكتبه من الداخل ويغط في نوم عميق ، و أكتشف الجميع ذلك حين طرق عليه طلعت الساعي الباب ومعه القهوة فلم يرد ، ظن طلعت انه اغمى عليه فكسر الباب بعد تجمع الموظفين امام المكتب ليكتشف انه راح في اغفاءة طويلة وبعيدة وقد افترش المكتب متوسدا يده كشحاذ معدم !! حاول طاهر التقرب لشلة الانس لكنه وجد نفسه سوف يكون (بهلول) السهرة ، كان يذهب كل ليلة لمركب القراصنة فتتساقط عليه التعليقات الساخرة من كل فم ولا يستطيع الرد سوى بأبتسامته البلهاء ، جودت لم يكن يسخر منه مثلهم لكنه كان يحب مشاهدة طاهر وهو يبدو كجرذ محاصر تتداعى عليه اظفارهم الشبقة لفريسة يتقاذفوا اشلائها الممزقة فيما بينهم قبل ألتهامها وقد سال لعابهم على لون دمائها القاني ، ولم تفلح محاولاته لان يكون واحد منهم فلم يتعاملوا معه معاملة الند ابدا حتى هجر هذه الأجتماعات ، أشتهر المهندس طاهر في كل الشركة بانه رجل بركة وليس له دور أو سلطات أو مسئوليات ، لكن له احترامه بأعتباره مساهم و صاحب ملك يعمل بفلوسه ، تحول لعجينة مرنة في يد جودت ، ووضع نفسه تحت تصرفه حتى يستمر في الشركة اطول وقت ممكن ، كان دوره ينحصر في التوقيع على كل شيء وأي شيء يأمره جودت بالتوقيع عليه بدون أعتراض ، كل ما يهمه ان يحصل على مرتبه لينفقه في ايام قليلة ، ويوم سافر جودت لبطولة فروسية بصحبة ابنه ، أخذ طاهر فرصة ذهبية لتحمل المسئولية والأدارة ، لكنه اضاع الفرصة دون اكتراث ، فقد أستدعاه الدكتور اسماعيل ليعطيه شيك تمويل للشركة لحين عودة جودت ، فوجيء الدكتور ان طاهر انزعج جدا ورفض ان يأخذ الدفعة ، استاذن الدكتور ان يعطي الشيك لعارف فهيم المدير المالي بدلا منه ، استمر طاهر على هذا الوضع حتى تحول تدريجيا الى مجرد شيء في الشركة ليس له وجود أو معنى وبدأ يغيب عن العمل ايام كثيرة ، ثم ياخذ عهدة مبالغ صغيرة لينجز بها بعض الأعمال المحددة ، فيكتشف جودت انه صرف النقود ولم ينفذ ما طلب منه ، دب بينهما خلاف كبير حين طلب طاهر سلفة شخصية كبيرة تخصم من المرتب لشراء سيارة ، رفض جودت نهائيا ، وطالبه يسدد أولا الأموال التي حصل عليها وصرفها ، تهور طاهر عليه و كاد ان يشتبك معه في مكتبه لولا تدخل الموظفين لكنه تطاول عليه بالسباب وقبل ان يهم جودت أن يضربه ، دخل منصور جريشة الذي كان مارا بالصدفة أثناء المشاجرة و تمكن من السيطرة عليه ثم أغلق المكتب على ثلاثتهم ، حينئذ تحدث جودت اليه وواجهه بحقيقته المرة وكيف أنه لا يصلح لأي شيء ، وأنه عالة على الشركة ولا يفيدها بما يحصل عليه من مرتب ، كانت جلسة قاتلة بالنسبة لطاهر تعرى فيها أمام نفسه بصورة جعلته يغادر الشركة بعدها متوجها لمكتب الدكتور اسماعيل شامل ، وفور وصوله زعق جرس الهاتف بمكتب المهندس جودت ، كان مدير مكتب الدكتور يخبره بحضور طاهر يطلب مقابلة الدكتور ، شكره جودت بكبرياء فقد كان الرجل يحصل على مرتب شهري كبير من أجل هذه المهمة فقط ، اخبار جودت عن كل من يأتي من الشركة يطلب مقابلة الدكتور ، طلب طاهر مقابلة الدكتور وبعد أن دخل لم يعرف ماذا يقول كان مرتبكا و غاضبا ، لاحظ الدكتورأنه مشوش ومهزوز ولم يفهم منه شيئا فنصحه ان يعود لبيته يستريح ويأتي له في وقت أخر ، لم يقبل طاهر ان يخرج خالي الوفاض ، جمع شتات أعصابه المبعثرة وهو يتهم جودت بالسرقة ، قال للدكتور ان جودت رجل حرامي يسرقه مستخدما في ذلك مقاولين أصدقاء له وانه اقترح عليه تغيير هؤلاء فرفض وانه مستبد في أدارة الشركة ولا يريد أن يشترك معه احد في ذلك ، طاهر كان يتحدث بدون تفكير ، كان يقول ما يتبادر لذهنه لحظيا كالأطفال فهو يردد كلاما مرسلا سمعه من اشخاص كثيرين في الشركة بدون أثبات يهمس به البعض هنا وهناك ، زاد من ارتباكه حين سأله الدكتور عن الدليل على ذلك ، لم يجد طاهر ما يقوله سوى ان الشركة كلها تعلم ذلك ، ساعتها بدا وكأنه جسم زجاجي هش سقط على ارض رخامية هشمته الى فتات صغيرة ، تفوح رائحة الصمت في الغرفة ، طاهر يقف كطفل باكي جاء يشكو طفلا أكبر منه سلبه لعبته بعد أن أوسعه ضربا ، هكذا كان يراه الدكتور اسماعيل وهو يحملق فيه بهدوء ، نظرات الدكتور الغائرة وتعليقاته الرصينة المحيطة بالموقف تدل على ان الرجل قد فقد الأحساس بالدهشة ، فالموقف متكرر في كل شركاته ، لم يخيب طاهر من جديد أمل ابوه فيه لكنه أيضا أراق امال كثير من موظفي الشركة الذين راهنوا عليه ووضعوه في مقارنة ظالمة بينه وبين جودت ، فكيف يقارن طائر نورس كسيح ومهيض الجناح بصقر مشرعة اجنحته في السماء ، كنت واحدا من الذين راهنوا على طاهر واملوا في أن يغير هذه الشركة ، ترى هل كنت أأمل فعلا في التغيير أم كنت أمل في ان ينتصر طاهر لأنه سهل الأنقياد ويمكن أن يكون دمية والعوبة سهلة في أيدينا نحن صغار الموظفين لنحقق مكاسبنا الشخصية ، اما جودت فلا امل لنا فيه ، فهو الذي يتلاعب بنا دوما ، كان يناديني دائما( أبو الرشد)، و يمنحنا كثير من النقود أنا وفؤاد على سبيل الهبة التي لا ترد بمجرد ان نسوق له أي حجة واهية ، جاء والده للدكتور اسماعيل ينوء ظهره الوهن بخيبة ابنه الثقيلة ، يعتذر للدكتور عن أفعال ابنه وتصرفاته في خجل لكن الدكتور يربت على كتفه في أخوية ملفقا للموقف ابتسامة خاطفة ، تخفف عن الرجل معاناته وصدمته, الدكتور أسماعيل ليس من عادته الشعور بالرثاء لأحد ، لكنه شعر بالشفقة من أجل والد طاهر ، شعر بحسرة الرجل بشعور الأب حين تفسد ثمرة عمره ، ثم أخذ الرجل نقوده ورحل ليكرر التجربة في شركات أخرى ، مع اناس اخرين غير يائس وطاهر أيضا لا ييأس من أن يفعل الشيء نفسه كل مرة . ، رغم أرتيابه في طاهر استدعى الدكتور المهندس جودت ليواجهه بما حدث ويستوضح منه الأمر ، وأستطاع جودت أن يدحض كل أتهامات طاهر ويؤكد صورته الحقيقية امام الدكتور ، كانت هذه هى المرة الأولى التي يحاول فيها أحد تشويه صورة جودت أمام الدكتور ، لكنها بالتأكيد لم تكن الأخيرة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق