الخميس، 11 يونيو 2009

نجار سواقي


نجار السواقي
حين شاهدنا عبد الغني بلديات رمضان جالسين على مقهى البستان ، أقبل علينا بحفاوة غيرمعتادة ، وبدون مقدمات سحب كرسي داعيا نفسه للجلوس معنا ، كثيرا التقيت به هنا وعرفته عن طريق رمضان لكن لم يسبق لي أن عرفت عنه أكثر من أنه يكتب الشعر العامي ، عبد الغني هجر مهنته بالقرية في المنوفية وحمل أغراضه القليلة للقاهرة طامحا في ان يصبح واحد من شعراء العامية المعروفين في البلد ، يرى ان لديه موهبة لنظم الشعر العامي ينبغي الا تدفن في القرية بين السراق والفارة والمسامير ، كان يعمل في القرية نجار متخصص في صناعة السواقي و الطنابيرمع والده ، مهنة ورثتها الأسرة ابا عن جد ، لكن مع التطور التكنولوجي و انتشار ماكينة المياه ، أخذت المهنة في الأندثار و لم يعد احد يستخدم هذه الأدوات البدائية فضلا عن تآكل الرقعة الزارعية في القرية أمام زحف الخرسانة و عدم أقبال الفلاحين على حرفة الزراعة ، كذلك قلة المياه جعلت هذه الأدوات غير فعالة في الري فالمياه اصبحت عزيزة تحتاج الى ادوات ترفعها من العمق ، هكذا كان يبرر عبد الغني البتانوني لنا هجرته من القرية للقاهرة ، عبدالغني ليس معه اي مؤهل دراسي لكن ما اهمية الدراسة اذا كانت الموهبة موجودة طبقا لوجهة نظره فكم من متعلم لكن ليس لديه نفس الموهبة و لا يمكنه كتابة بيت شعر واحد ، و أسترسل عبدالغني في حديثه قائلا ، بعد أن كسدت هذه المهنة اتجه لصناعة الطبليات التي يأكل عليها الفلاحين ، لكن سكان القرية لن يشتروا كل يوم طبلية ، وهكذا وجد عبدالغني نفسه بلا عمل تقريبا ، كان اكثر ما يتميز به هو جرأته الشديدة على اقتحام هذا العالم و فرض وجوده على الساحة بدون أي اسلحة اللهم الا موهبته التي يباهي بها المتعلمين ، أيمانه بنفسه كان المفتاح الذي فتح له باب هذا المعترك ، مازال رمضان يشعر بالقلق من اقتحام عبد الغني لجلستنا فهو يعرفه جيدا ولابد أن يكون له هدف نهائي من ذلك ، سألته ان يقرأ علينا أخر ما كتب ، سارع عبد الغني على الفور وكأنه كان ينتظر هذه الفرصة فاخرج من حقيبته اخر دواوينه وراح يقرأ ، فغرت فاي ، أحملق فيه وقد لعبت الدهشة برأسي ، كان الكلام مبتذل وقميء للغاية لدرجة أنني لم أصدق انه منشور في كتاب يقرآه الناس لولا أني شاهدت ما يسمى بالديوان في يديه ، أحتفظت برأيي ولم أصدم الرجل لكن رمضان أطلق ضحكة صاخبة وأخذ يلسع عبد الغني بتعليقاته الساخرة ، عبد الغني لم يغضب فقد أعتاد أن يواجه ما هو اقسى من هذا بكثير ، لكنه ألقم رمضان حجرين في فمه فأخرسه ، الأول ان وزارة الثقافة قد اعطته منحة التفرغ لنشره ثلاثة دواوين ومنهم هذا الديوان البذيء الذي كان يقرأ منه من لحظات ، والحجر الثاني أن الجامعة الأمريكية أقامت له حفلة كبيرة كضيف شرف لها وكرمته تكريما خاصا بأعتباره شاعر عامية مميز!!!! نظر رمضان في ساعته متجاهلا ما قاله عبد الغني و كانه لم يسمعه ، تأكد الأخير انه نال من رمضان ولكي يكتمل أنتصاره أخبره بانه حاليا يكتب أغنيات عامية لبرنامج اطفال في الأذاعة ، قرر رمضان مغادرة المقهى فجأة ، أنتصب واقفا دون حتى ان يسألني ، كصاروخ أستعد للأنطلاق من فوره ، معتذرا لعبد الغني بحجة أن لديه موعد هام ، لحق عبد الغني بنا على ناصية الشارع وهو يقفز من فعل عاهة خلقية في قدمه ليلحقنا ، ثم عرض على رمضان شراء نسخة من ديـــــــوانه( لحم خفيف) رفض رمضان لكن بعد الحاح و رجاء من عبد الغني لأنه يريد شراء عشاء وليس معه نقود ، وافق رمضان ونفحه خمسة جنيهات ، سار معنا عبد الغني بعدها ممتنا حتى المطعم ثم صافحنا ودلف للداخل ، ، سرت مندهشا أضرب كفا بكف ، يكسو ملامحنا الشاخصة للأمام آهاب الصمت ، لكن صوتا مرتفعا في عقلي الباطن يتردد صداه في أذني أن عبد الغني وأمثاله ما هم سوى بثورا متقيحة على سطح حياتنا سرعان ما سوف تجف وتشفى ثم تنسى ولا يبقى لها أثر فهل كنت اواسي نفسي أم ان الزمان قد أختلف ، رمضان كان شاردا في الخمسة جنيهات التي احتال عليه بلدياته ليفوز بها من أجل وجبة ساخنة تدفىء جوفه الخاوي ، أخذ رمضان ينظر للديوان الذي لا يساوي ثمن ما خط به من مداد وقد أدرك سر بشاشة عبد الغني وملاقاته اياه بحفاوة ، واقباله على مجالستنا على الرغم من انه كثيرا ما رأنا ولم يكلف خاطره حتى ليلقي علينا السلام ، كان رمضان يتمتم بكلمات ساخطة ، اظنه كان يلوم نفسه ويجلدها بقسوة بعد أن رأى من امر عبدالغني ما لم يطيقه ، عبد الغني برغم انه لا شيء استطاع في وقت قصير ان يضع نفسه على الطريق ويفرض نفسه على الساحة برغم كل الصعوبات ، فماذا فعل هو منذ أن وطئت قدماه القاهرة لا شيء ، ما زال موزعا بين وظيفة مهينة وحلم يبدو بعيدا عن التحقق ، لقد اذهلنا فعلا نهر الثقة الدافق داخل جسد عبد الغني النحيل ، أنه مقاتل شرس ...ودعت رمضان وأفترقنا عند موقف الأتوبيس بميدان الفلكي حيث ركب اولا أتوبيس أمبابة ولحقته بعدها بلحظات فركبت أتوبيس الجيزة ، الأتوبيس مركبة لا تصلح للنوم رغم انه يلح في طلبي ، الأهتزازات العنيفة كألعاب الملاهي ألهمتني رغبة في القيء ولمباته المستطيلة بنورها الفاضح تخيف النوم من الأقتراب بالأضافة لأتساعه مثل صالات الأفراح ما يهتك شعوري بالخصوصية ، الناس فوق المقاعد و في الطرقة وعلى السلم ومنهم العالق بالباب ، يشكلون جميعا لوحة ضخمة ساخرة من التصاق الأجساد و أختلاط اللحم ، في أحدى الوقفات الأجبارية بمحاذاة اتوبيس سياحي فاخر أصطف السياح عبر النوافذ لتصوير هذه اللوحة القياسية وتسجيل المشهد النادر بالنسبة لهم بكاميرات الفيديو ، فهم لا يجدونه ألا في موسوعة جينيس للأرقام القياسية ، صفحة الأتوبيسات المصرية الخارقة !! أتوبيسنا يبدو كوحش أنقرض من اكلة البشر تتدلى الناس من بين انيابه ، ماموث طائش ، وقد امتلاءت معدته الشفافة وفمه المفتوح بوضوح ، الزحام الشديد أمام دار الأوبرا وشارع التحرير وشارع الدقي ثم شارع الجامعة يجبر السائق على أستخدام الفرامل كل عدة أمتار فيصدر الأتوبيس صوتا كأنه عملاقا يفسو ، كانت الساعة تشير الى الحادية عشر مساءا أستغرق المشوار للجيزة قرابة الساعة قبل ان أستقل ميكروباص أخر للبدرشين ، الميكروباص ناقلة افراد سريعة ومريحة ، لا أتخيل مصر بدون هذه السيارة ، فكيف كانت حياتنا تجري بدونها ، كأنني قد ولجت في قلب صومعة مظلمة ، تكومت خلف كرسي السائق في أنتظار اكتمال العدد ، لحقت بي الى جواري سيدة بدينة ثبتتني لصق الشرفة تماما ، المسافة طويلة الى هناك يضاعف من طولها الشعور بالنصب والصداع اللذان يطرقان رأسي طرقا ، عقلي مخفوق داخل وعاء رأسي الضيق ، يكاد يفور من حوافه الساخنة ، يعود النوم ثانية خلسة بوجه بشوش ، أغفاءات متماوجة تاتي وتروح في أنسيايبة مع هدهدة خفيفة لأختراع أسمه الميكروباص ، كأنها أرجوحة تدغدغ أعصابي القلقة ، عبد الغني البتانوني يظهر مرة أخرى على شاشة الذاكرة ، كيف واتته الجرأة على أن يصور هذه المشاهد الجنسية الهابطة ثم يطلق عليها ديوان شعر ، دائما أشبه المثقف بالنحلة التي لابد أن ترتقي الزهور البديعة حتى تنتج عسلا حلوا ، لكن هذا الشاعر الذبابة يبدو انه لا يحط سوى فوق القاذورات والفضلات والقمامة ثم يغوط تلك الجيف التي يدعوها شعرا ، موجات النوم تتسارع تتحول لنوة عاتية تبتلعني في غيبوبة طويلة.....السائق يناديني - أصحى يا استاذ ....الأخر ، وصلنا ، رفعت رأسي المندلق فوق صدري ، ثمة ريالة لزجة كثيفة أنسالت على قميصي من فمي الموارب أثناء النوم فبللته ، هذه عادتي السيئة كلما نمت ، قيل لي أنها من فعل بكتيريا بالمعدة بسبب ( الرمرمة ) على عربات الطعام المشردة في شوارع القاهرة ، نزلت متثاقلا اجمع عظامي مرة أخرى ، أسحب ساقاي الثقيلتان الى الشوارع الجانبية لأختصر طريقي للمنزل ، أفوت وسط أطباق طينية ملاءنة بمياه الصرف ، أكياس القمامة بلون الليل متراصة على الجانبين كأصص الزرع ، تتنادى فوقها قطتين بمواء ممطوط ، أحسبه مقدمة تفاوض على دعوى صريحة لممارسة الحب ، تبرق عيونهما في الظلام الحالك كومضات الرعد ، ثمة حريق قمامة يحتضر على مقربة ، ينفث دخانه الأخير كثيفا يتسلق الهواء و تعبأ رائحته الجو ، تلوح المنازل من بين العتمة كأنها شواهد القبور ، يحوطها سياجا عالي من الصمت ، ها أنذا بلغت البيت مكدودا ، أستبق روحي نحو السرير في غمرة شوق عاصف للنوم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق