الخميس، 11 يونيو 2009

أنثى


أنثى
حضرت في يوم عملها الأول ترفل في رداء خلاب ، والدها يعرف شقيق عارف فهيم فتوسط لها عنده لتعمل ، حسناء انسانة وديعة ورقيقة وخجولة جدا طيبة القلب ومسالمة ، رأيت في وجودها انيسا من وحشة هذا المكان وسلوى لشعوري بالأغتراب وسط هذه الرفقة وعلى رأسهم الأستاذ عارف ، لم يكن قد مضى على تعييني أسبوع ، كرهت خلاله المكان برمته و أعتراني أكتئاب شديد ، شعر كلانا بالأرتياح للأخر ، حسناء ايضا كانت في حاجة لمن يؤلفها على المكان ، وجد كل منا حاجته النفسية لدى الثاني ، كنا كالأفراخ التي خرجت للتو الى الدنيا الكبيرة تشعر ببرودة الحياة الواسعة ، مازالت أقدمنا لا تقوى على حمل اجسانا الرقيقة ، يعجز الزغب الأصفر أن يحمي هذه الأجسام الضعيفة فلا نجد بدا من أن يذوب كلانا في رفيقه ليستدفء به و يصطلي بانفاسه الساخنة ، حسناء حلوة المعشر لها ضحكة عفوية قوية و بريئة ، أننا نعرف بعضنا البعض من زمن بعيد جدا ، هكذا كان ثمة شعور طاغي يغلفنا ، تمت خطبتها قبل ان تتسلم العمل بأيام ولولا ذلك لأخذت علاقتنا منحنى اخر ، شكلنا معا فريقا منسجما جدا في العمل ، أصبحت النظرات هى لغة الحوار والتفاهم بيننا فمجرد تبادل النظرات في موقف ما يعرف كل منا ما عليه فعله ، هذا التقارب كان مصدر أزعاج شديد لعارف فيهم ، فهو أيضا لم يحب حسناء لأنها كانت تشعره بنفورها المستديم من اسلوبه في التعامل معها ، بل كانت تتحول لقطة شرسة تهاجمه حين يقسو عليها ، هى أنثى بكل ما تحمله الكلمة من معنى ، يسعدها أن تنقاد للرجل و تمتثل لطاعته في غير معارضة ، تحب ان تركن لمن سكنت جوارحها اليه و تعود له في كل الأمور بغير حرج ، انفها المنمنم يرسل زخات باردة من عبير انفاسها الطيب الرطب ، أشعر بها كلما أقتربت مني كظل شجرة وارفة الأغصان لتناصحني وتهمس الي بكلماتها المهمومة بخلافاتي المستمرة مع عارف فهيم ، كانت تخاف علي من هذا الرجل خوف الأم على رضيعها ، أذكر يوم أن جلسنا متقابلين بمكتب المهندس جودت حين كان يراجع معها حسابات البنوك ويراجع معي حسابه الشخصي ، بينما يتفحص الأوراق والأرقام كنت مشغولا عن الوجود اطارد غمازتين يظهرا ويختفيا على وجنتيها كلما سكنت ملامحها البريئة أو أبتسمت ، غاصت عيناي بين ثنايا وجهها العربي بلونه القمحي و تفاصيله المصرية الخاصة ، سبحت نظراتي على صفحة هذا الوجه الرائق ، سرى في جسدي خدر من نوع لم أعهده من قبل ، حين رفع المهندس جودت رأسه فجأة فوجدني مسبلا وغارقا في هيامي زجرني قائلا :-
- أنتى يا بني مالك كده عامل زي ما تكون مش لاقي حد تحبه
- فين الحساب !
تحول وجهي لكتلة حمراء ، لصقت ابتسامة خجلة على شفتي أستر بها ما تعرى من احاسيسي المكبوتة و أنا اقلب في اوراقي التي ماعدت أري فيها سطرا ، كلماته ليس لها معنى ، وفي نفس الوقت لها معاني كثيرة ، فهل يتربص الأنسان بالحب ويترصد له ، كيف يكون ذلك حبا أذن اذا كان موجها بهذا الشكل ، أم أن الحب كالموت يأتي بغتة ، ربما لم يقصد ما قال و ربما خانه التعبير ، المهم أنه احرجني جدا ، كانت عيناها النجلاوين تفرج بين الحين والأخر عن بعض مشاعرها السجينة المكبلة بحزام العفة ، تهفو ناحيتي تحتويني ، مشاعر خرساء أشعر بها تلفني لكني ابدا غير قادر على لمسها ، دائما كانت جلستنا متقابلة حتى المكتبين في القسم كانا كذلك ، اذكر يوم أن دخل سامي الأمير القسم فوجد على مكتبها نتيجة العام ، مكتوب عليها في الجهة المقابلة لي (تهادوا تحابوا) فقال مداعبا لنا انها تضع هذه العبارة أمامي حتى اهاديها فنتحابب ، ذابت بعدها وصار وجهها الصبوح بلون الفراولة وهى تتحاشى النظر ناحيتي فتنظر عند قدمها دون أن تنطق ، مضرجة في بحيرة من الخجل ، ويوم أن أطاح بي الأستاذ عارف فهيم من الأدارة المالية بعد ان ضاق بعلاقتي بالمهندس جودت و نفاني الى مشروعات الساحل الشمالي ، كنت أهفو الى العودة الشهرية للأدارة ، أغترف بنظراتي الواثبة لقطات متنوعة من وجهها الحالم ، اختزنها في جيوب عقلي ، يتقوت عليها القلب في أوقات الأغتراب ، حين تجترها الذاكرة في مواساة وتعرضها في حفلات مسائية خاصة ، ويوم ان تزوجت فغابت في اجازة الأيام الأولى ، غابت معها كل ألوان الفرحة وبدا الكون قاتما في لون واحد ، صرت روحا حيرى هابئة تائهة قد اضناها البحث وذوبتها أشواق العودة للجسد الذي أقتلعت منه ، لتنبعث الحياة في كلايهما من جديد ، عاودني رهاب البعاد هل تعود أم أن الحلم قد أنتهى ، و في زيارة التهنئة الجماعية وجدتني دون وعي مني ، أأمر زوجها في عجرفة بسرعة عودتها للعمل ، ثم تنبهت لحماقتي فأردفت قائلا بأبتسامة مقتضبة : دي رسالة لك من الأستاذ عارف وبعد اذنك طبعا !! وعادت ولكن غير ما ذهبت ، و لا عدت انا كما كنت ، دون اتفاق منا تبدلت مشاعرنا في صمت ، فأنا في كل مكان احتاج الى أم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق